ثم اخْتَلف أهلُ التأويلِ في تأويلِ قولِه: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾. بعدَ إجماعِ جميعِهم على أن تأويلَ سائرِ الآيةِ، على ما قلنا في ذلك من التأويلِ؛ فقال بعضُهم: تأويلُ ذلك: قل: هو من عندِ أنفسِكم، بخلافِكم على نبيِّ اللهِ، إذْ أشار عليكم بتركِ الخروجِ إلى عدوِّكم والإصحارِ (١) لهم، حتى يدخُلوا عليكم مدينتَكم، ويصيروا بينَ آطامِكم (٢)، فأبيتُم ذلك عليه، وقلتُم له: اخرُجْ بنا إليهم، حتى نُصحِرَ لهم، فنقاتلَهم خارجَ المدينةِ.
ذكرُ من قال ذلك
حدَّثنا بشرٌ، قال: حدثنا يزيدُ، قال: حدثنا سعيدٌ، عن قتادةَ قولَه: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾: أُصِيبوا يومَ أحدٍ، قُتِل منهم سبعون (٣) يومَئذٍ، وأصابوا مِثْلَيها (٤) يومَ بدرٍ، قتَلوا من المشركين سبعين، وأسَروا سبعين، ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾: ذُكر لنا أن نبيَّ اللهِ ﷺ قال لأصحابِه يومَ أحدٍ، حينَ قدِم أبو سفيانَ والمشركون، فقال نبيُّ اللهِ ﷺ لأصحابِه:"إِنَّا في جُنَّةٍ (٥) حصينةٍ" - يعنى بذلك المدينةَ - "فَدَعُوا القومَ أن يدخُلوا علينا نقاتلْهم". فقال له ناسٌ من أصحابِه من الأنصارِ: يا نبيَّ اللهِ: إنا نكرَهُ أَن نُقتَلَ في طرقِ المدينةِ، وقد كنا نمتنعُ [من الغزوِ](٦) في الجاهليةِ، فبالإسلامِ أحقُّ أن نمتنعَ فيه، فابرُزْ بنا إلى القومِ. فانطلق نبيُّ اللهِ ﷺ، فلبِس لأْمتَه (٧)، فتلاوم القومُ، فقالوا
(١) الإصحار: مصدر أصحر القوم، إذا برزوا في الصحراء. تاج العروس (ص ح ر). (٢) جمع أطم، كل حصن مبنى بحجارة وكل بيت مربع مسطح. القاموس المحيط (أ ط م). (٣) في ص، ت ١، ت ٢، ت ٣، س: "سبعين". (٤) في ص، ت ١، ت ٢، ت ٣، س: "مثلها". (٥) الجُنَّةُ - بالضم -: ما واراك من السلاح واستترت به منه. والجنة أيضًا السترة والوقاية. لسان العرب (ج ن ن). (٦) في الأصل: "من العرب". وفى م: "في الغزو". ينظر مصدر التخريج. (٧) اللأمة: الدرع. وقيل: السلاح. ولأمة الحرب: أداته. النهاية ٤/ ٢٢٠.