أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ فنفَى عنهم العلمَ، هم الذين وصَفهم اللهُ بقولِه: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾. وإنما نفَى عنهم جلّ ثناؤُه العلمَ بقولِه: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾. بعدَ وصفِه إياهم بأنهم قد علِموا بقولِه: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾. من أجلِ أنهم لم يعمَلوا بما علِموا، وإنما العالِمُ، العاملُ بعلمِه، فأما إذا خالَف عملُه علمَه، فهو في معانى الجهَّالِ. قالوا (١): وقد يقالُ للفاعلِ الفعلَ بخلافِ ما ينبغى أن يفعلَ، وإن كان بفعلِه عالِمًا: لو علِمتَ لأقصَرتَ. كما قال كعبُ بنُ زهيرٍ المزنيُّ، وهو يصِفُ ذئبًا وغُرابًا تبِعاه لينالا من طعامِه وزادِه (٢):
إذا حضَرانى قلتُ لو تَعْلَمانه … ألم تَعْلَما أنى مِن الزَّادِ مُرْمِلُ (٣)
فأخبرَ أنه قال لهما: لو تعلَمانه. فنفَى عنهما العلمَ، ثم استخبرَهما فقال: ألم تعلَما. قالوا: فكذلك قولُه: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾. و: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.
وهذا تأويلٌ، وإن كان له مخرَجٌ ووجهٌ، فإنه خلافُ الظاهرِ المفهومِ بنفسِ الخطابِ، أعنى بقولِه: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا﴾. وقولِه ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾. وإنما هو استخراجٌ. وتأويلُ القرآنِ على المفهومِ الظاهرِ بالخطابِ دونَ الخفيِّ الباطنِ منه -حتى تأتىَ دَلالةٌ من الوجهِ الذى يجبُ التسليمُ له، بمعنًى خلافِ دليلِه الظاهرِ المتعارَفِ في أهلِ اللسانِ الذين بلسانِهم نزَل القرآنُ- أَولى (٤).