وتقديمِ الخيراتِ لأنفسِهم؛ ليَتَطَهَّرُوا بذلك من الخطأِ الذي سَلَف منهم في استِنْصاحِهم اليهودَ، وركونِ من كان ركَن منهم إليهم، وجفاءِ من كان جَفَا منهم في خطابِه رسولَ اللهِ ﷺ بقولِه: ﴿رَاعِنَا﴾. إذ كانت إقامةُ الصلَواتِ كفارةً للذنوبِ، وإيتاءُ الزكاةِ تطهيرًا للنفوسِ والأبدانِ من أدناسِ الآثامِ، وفي تقديمِ الخيراتِ إدراكُ الفوزِ برِضْوانِ اللهِ.
وهذا خبرٌ من اللهِ جل ثناؤُه للذين خاطَبَهم بهذه الآياتِ من المؤمِنين، أنهم مَهْما فعَلُوا من خيرٍ أو (١) شرٍّ، سرًّا و (٢) عَلانيةً، فهو به بَصِيرٌ، لا يَخْفَى عليه منه شيءٌ، فيَجْزِيهم بالإحسانِ جزاءَه، وبالإساءةِ مثلَها.
وهذا الكلامُ وإن كان خرَج مَخْرَجَ الخبرِ، فإن فيه وعْدًا ووَعيدًا، وأمرًا وزَجْرًا، وذلك أنه أعلمَ القومَ أنه بَصِيرٌ بجميعِ أعمالِهم، لِيَجِدُّوا في طاعتِه؛ إذ كان ذلك مَذخورًا لهم عندَه حتى يُثِيبَهم عليه، كما قال جلَّ ثناؤُه: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ﴾. ولِيَحْذَرُوا معصيتَه، إذ كان مُطَّلِعًا على راكِبِها، بعد تَقَدُّمِه إليه فيها بالوعيدِ عليها، وما أوْعَدَ عليه ربُّنا جل ثناؤُه فمَنْهِىٌّ عنه، وما وعَد عليه فمأمورٌ به.
أما قولُه: ﴿بَصِيرٌ﴾. فإنه مُبْصِرٌ، صُرِف إلى بَصيرٍ، كما صُرِف مُبْدِعٌ إلى بَدِيعٍ، ومُؤْلِمٌ إلى أَليمٍ.