فإن قال قائلٌ: فإن كان أوْلَى التأويلاتِ بالآيةِ هو ما ذكَرْتَ، مِن أن اللهَ تعالى ذِكْرُه أخْبَر الملائكةَ بأن ذريةَ خليفتِه في الأرضِ يُفسِدون فيها ويَسفِكون فيها الدماءَ، فمِن أجلِ ذلك قالتِ الملائكةُ: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾. فأَين ذِكْرُ إخبارِ اللهِ تعالى ذِكْرُه إياهم بذلك في كتابِه؟
قيل له: اكْتُفي بدَلالةِ ما قد ظهَر مِن الكلامِ عليه عنه، كما قال الشاعر (١):
إذ كان فيما ظهَر مِن كلامِه دلالةٌ على معنى مرادِه، فكذلك ذلك في قولِه: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ لمّا كان فيه دَلالةٌ على ما ترَك ذكرَه بعد قولِه ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ مِن الخبرِ عما يَكونُ مِن إفسادِ ذريتِه في الأرضِ، اكْتَفَى بدلالتِه، فحذَف وترَك ذِكْرَه، كما ذكَرْنا مِن قولِ الشاعرِ، ونظائرُ ذلك في القرآنِ وأشعارِ العربِ وكلامِها أكثرُ مَن أن يُحْصَى، فلِمَا ذكَرْنا مِن ذلك (٦) اخْتَرْنا ما اخترْنا مِن القولِ في تأويلِ قولِه: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾.
(١) في نسبة البيت خلاف، وأكثر الرواية تنسبه إلى الشَّنْفَري - ينظر الشعر والشعراء ١/ ٨٠، والأغاني ٢١/ ١٨٢، وشرح الحماسة للمرزوقي ٢/ ٤٨٧، وأمالي ابن الشجري ١/ ٣٦٠ - وبعضها ينسبه إلى تأبط شرًّا. ينظر الحيوان ٦/ ٤٥٠، وأمالي المرتضى ٢/ ٧٣. (٢) رواية الحيوان: فلا تقبروني إن قبري محرم. (٣) رواية الأصفهاني، والمرزوقي: "أبشرى". (٤) في م: "عند". (٥) أم عامر هي الضبع، ويضرب بها المثل فيُشَبَّه بها الأحمق فيقال: خامري أم عامر، ينظر عقلاء المجانين ص ٢٥، ٢٦، ومجمع الأمثال ١/ ٤٢٢. (٦) بعده في ص: "ما ذكرنا".