واعتلَّ قائلو هذه المقالةِ لقولِهم هذا بأن قالوا: إن اللهَ قال: ﴿[حَتَّى إِذَا](١) أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ﴾ [يونس: ٩٠]. قالوا: فوصَف اللهُ تعالى ذكرُه الغرقَ بأنه أدْرَك فرعونَ، ولا شكَّ أن الغرقَ غيرُ موصوفٍ بأنه رآه، ولا هو مما يَجوزُ وصفُه بأنه يَرَى شيئًا. قالوا: فمعنى قولِه: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾. بمعنى (٢): لا تراه، بعيدٌ (٣)؛ لأن الشيءَ قد يُدْرِكُ الشيءَ ولا يَراه، كما قال جلَّ ثناؤُه مُخْبِرًا عن قِيلِ أصحابِ موسى ﷺ لموسى حينَ قرُب منهم أصحابُ فرعونَ: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء: ٦١]. لأن اللهَ قد كان وعَد نبيَّه موسى ﷺ أنهم لا يُدْرَكون؛ لقولِه: ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾ [طه: ٧٧].
قالوا: فإذ كان الشيءُ قد يَرَى الشيءَ ولا يُدْرِكُه، ويُدْرِكُه ولا يراه، فكان معلومًا بذلك أن قولَه: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾. مِن معنى: لا تَراه الأبصارُ - بمَعْزِلٍ، وأن معنى ذلك: لا تُحيطُ به الأبصارُ؛ لأن الإحاطةَ به غيرُ جائزةٍ.
قالوا: فالمؤمنون وأهلُ الجنةِ يَرَوْن ربَّهم بأبصارِهم، ولا تُدْرِكُه أَبْصارُهم، بمعنى: أنها لا تُحِيطُ به، إذ كان غيرُ جائزٍ أن يُوصَفَ اللهُ بأن شيئًا يُحِيطُ به.
قالوا: ونظيرُ جَوازِ وصفِه بأنه يُرَى ولا يُدْرَكُ، جوازُ وصفِه بأنه يُعْلَمُ ولا يُحاطُ به، وكما قال جلَّ ثناؤُه: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ [البقرة: ٢٥٥]. قالوا: فنفَى جلَّ ثناؤُه عن خلقِه أن يكونوا يُحِيطون بشيءٍ من علمِه إلا بما
(١) في النسخ: "فلما". والمثبت نص التلاوة. (٢) في ص، ت ١، ت ٢، ت ٣، س، ف "معنى". (٣) في م: "بعيدا".