فإن قال لنا قائلٌ: إنك ذكَرْتَ أن معنى قولِ اللهِ تعالى ذكرُه: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾: خمَدت وانطَفأت. وليس ذلك بموجودٍ في القرآنِ، فما دَلالتُك (١) على أن ذلك معناه؟
قيل: قد قلنا: إن من شأنِ العربِ الإيجازَ والاختصارَ إذا (٢) كان فيما نطَقت به الدَّلالةُ الكافيةُ على ما حذَفت وترَكت، كما قال أبو ذُؤَيبٍ الهُذَلِيُّ (٣):
عَصَيْتُ (٤) إليها القلبَ إِنِّي لأمرِها … سميعٌ فما أدْرِى أرُشْدٌ طِلابُها
يعني بذلك: فما أدْرِى أرُشْدٌ طِلابُها أم غيٌّ. فحذَف ذكرَ "أَمْ غيٌّ"، إذ كان فيما نطَق به الدلالةُ عليها، وكما قال ذو الرُّمَّهِ في نعتِ حَميرٍ (٥):
فلمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ أو حينَ نصَّبَت (٦) … له مِن خَذَا (٧) آذانِها وَهْو جانِحُ
يعني: أو حينَ أقْبَل الليلُ. في نظائرَ لذلك كثيرةٍ كرِهنا إطالةَ الكتابِ بذكرِها. فكذلك قولُه: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ لمَّاَ كان فيه وفيما بعدَه من قولِه: ﴿ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾
(١) في ت ١: "دليلك". (٢) في ص، ت ١: "إذ". (٣) ديوان الهذليين ١/ ٧١. (٤) في الديوان: "عصاني". (٥) ديوان ذي الرمة ٢/ ٨٩٧. (٦) نصبت: رفعت آذانها. اللسان (ن ص ب). (٧) خذِيت الأذن: استرخت من أصلها وانكسرت مقبلة على الوجه، يكون ذلك في الناس والخيل والحمر، خلقة أو حدثا. اللسان (خ ذ ى).