فإن قال قائلٌ: أفكان هؤلاء القومُ يسألون الناسَ غيَر إلحافٍ؟
قيل: غيُر جائزٍ أن يكونوا كانوا يسألون الناسَ شيئًا على وجهِ الصدقةِ إلحافًا [وغيَر الحافٍ](١)، وذلك أن الله ﷿ وصَفهم بأنهم كانوا أهلَ تعفُّفٍ، وأنهم إنما كانوا يُعرَفون بسيماهم، فلو كانت المسألةُ من شأنِهم لم تكنْ صفتُهم التعفُّفَ، ولم [تكنْ بالنبيِّ ﷺ إلى معرفتِهم بالأدلةِ والعلاماتِ حاجةٌ، إذ كانت](٢) المسألةُ الظاهرةُ تُنْبِئُ على حالِهم وأمرِهم.
وفي الخبرِ الذي حدَّثنا به بشرُ بن معاذٍ، قال: ثنا يزيدُ بنُ زريعٍ، قال: ثنا سعيدُ بن أبي عَروبةَ، عن قتادةَ، عن هلالِ بن حصنِ، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، قال: أَعْوَزْنا مرةً، فقيل لى: لو أتيتَ رسولَ اللهِ ﷺ فسألتَه. فانطلقتُ إليه مُعْنِقًا (٣)، فكان أوَّلَ ما واجَهنى به. "مَن استعفَّ أعفّه اللَّهُ، ومن اسْتَغنَى أَعْناه اللَّهُ، ومَن سأَلَنا لم ندَّخِرُ عنه شيئًا نجِدُه". قال: فرجَعتُ إلى نفسي، فقلتُ: أَلا أستعِتُّ فيُعِفَّنى اللهُ! فرجَعتُ، فما سألتُ رسولَ اللهِ ﷺ شيئًا بعدَ ذلك من أمرِ حاجةٍ، حتى مالت علينا الدنيا فغرَّقتنا، إلا مَن عصَم اللهُ (٤) - الدلالةُ الواضحةُ على أن التعفُّفِ معنًى ينفِي معنَى المسألةِ من الشخصِ الواحدِ، وأنّ مَن كان موصوفًا بالتعفُّفِ، فغيرُ موصوفٍ بالمسألةِ إلحافًا وغيرَ الحافٍ] (١).
(١) كذا في النسخ، ولعل الصواب: "ولا غير إلحاف". ينظر معاني القرآن للفراء ١/ ١٨١، وما سيأتي في الصفحة التالية. (٢) في ص، ت ١، ت ٢، ت ٣: "ولم يكن بالنبي ﷺ إلى علم معرفتهم بالأدلة"، وكذا في م، وزاد: "والعلامة حاجة وكانت". (٣) أي: مسرعا. النهاية ٣/ ٣١٠. (٤) أخرجه الطحاوى في شرح معاني الآثار ٢/ ١٦ من طريق يزيد به، وأخرجه أبو يعلى (١١٢٩، ١٢٦٧) من طريق قتادة به، وأخرجه أحمد ١٧/ ٤٨٨ (١١٤٠١) من طريق هلال به.