قالوا: وإنما سأل ربَّه ذلك؛ لأنه أَسْكَن فيه ذرِّيَّتَه، وهو غيرُ ذي زَرْعٍ ولا ضَرْعٍ، فاستعاذ بربِّه من أن يُهلكَهم بها جوعًا وعطشًا، فسأله أن يؤمِّنَهم مما حذِر عليهم منه.
قالوا: وكيف يجوزُ أن يكونَ إبراهيمُ صلواتُ اللهِ عليه سأل ربَّه تحريمَ الحرمِ، وأن يؤمِّنَه من عقوبتِه وعقوبةِ جبابرةِ خلقِه، وهو القائلُ حينَ حلَّه ونزَله بأهلِه وولدِه: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم: ٣٧].
قالوا: فلو كان إبراهيمُ هو الذي حرَّم الحرمَ أو سأل ربَّه تحريمَه لَمَا قال: ﴿عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم: ٣٧]، عندَ نزولِه به، ولكنه حُرِّم قبلَه وحُرِّم بعدَه.
وقال آخرون: كان الحرَمُ حلالًا قبلَ دعوةِ إبراهيمَ كسائرِ البلادِ غيرِه، وإنما صار حرامًا (١) بتحريمِ إبراهيمَ إياه، كما كانت مدينةُ رسولِ اللهِ ﷺ حلالًا قبل تحريمِ رسولِ اللهِ ﷺ إياها، [فصارت حرامًا بتحريمِ رسولِ اللهِ ﷺ إياها](٢).
قالوا: والدليلُ على صحةِ ما قلنا في ذلك ما حدَّثنا به ابنُ بشارٍ، قال: ثنا عبدُ الرحمنِ بنُ مهديٍّ، قال: ثنا سفيانُ، عن أبي الزُّبيرِ، عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: "إن إبراهيمَ حرَّم بيتَ اللهِ وأمَّنه، وإني حرَّمت المدينةَ ما بينَ لابَتَيْها (٣)، فلا يصادُ صَيْدُها، ولا تُقْطَعُ عِضاهُها (٤) "(٥).
(١) في الأصل: "حرما". (٢) سقط من: م، ت ١، ت ٢، ت ٣. (٣) اللابتان: تثنية لابة، وهي الحرَّة، وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها. النهاية ٤/ ٢٧٤. (٤) العضاه: أعظم الشجر، وقيل: ما عظم من شجر الشوك. اللسان (ع ض هـ). (٥) أخرجه النسائي في الكبرى (٤٢٨٤) عن ابن بشار به، وأخرجه مسلم (١٣٦٢) من طريق سفيان به.