وقال بعضُ نحويِّى الكوفةِ (١): هذه الهاءُ عمادٌ. وقال: أنَّت ﴿تَكُ﴾؛ لأنه يُرادُ بها الحبةُ، فذهَب بالتأنيثِ إليها، كما قال الشاعرُ (٢):
وتَشْرَقُ بالقولِ الذي قد أَذَعْتَهُ … كما شَرِقَت صَدْرُ القَناةِ من الدمِ
وقال صاحبُ هذه المقالةِ: يجوزُ نصبُ المثقالِ ورفعُه. قال: فمن رفَع رفعَه بـ "تَكنُ"، واحتمَلت النكرةُ ألَّا يكونَ لها فعلٌ في "كان" و "ليس" وأخواتِها، ومن نصَب جعَل في "تكن" اسمًا مضمرًا مجهولًا، مثلَ الهاءِ التي في قولِه: ﴿إِنَّهَا إِنْ تَكُ﴾ قال: ومثلُه قولُه: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ﴾ [الحج: ٤٦]. قال: ولو كان: إن يكُ (٣) مثقالَ حبةٍ. كان صوابًا، وجاز فيه الوجهان. وأما صاحبُ المقالةِ الأولى فإن نَصْبَ ﴿مِثْقَالَ﴾ في قولِه؛ على أنه خبرٌ وتمامُ "كان"، وقال: رفَع بعضُهم فجعَلها "كان" التي لا تحتاجُ إلى خبر.
وأولى القولين بالصوابِ عندِى القولُ الثاني؛ لأنَّ الله تعالى ذكرُه لم يَعِدْ عبادَه أن يُوفِّيَهم جزاءَ سيئاتِهم دونَ جزاءِ حسناتِهم، فيقالَ: إن المعصيةَ إن تكُ مثقالَ حبةٍ من خردلٍ يأتِ بها الله. بل وعَد كِلا العامِلَين أن يُوفِّيِه جزاءَ أعمالِهما. فإذا كان ذلك كذلك كانت الهاءُ في قولِه: ﴿إِنَّهَا﴾ بأن تَكونَ عمادًا أشبهَ منها بأن تكونَ كنايةً عن الخطيئةِ والمعصيةِ. وأما النصبُ في "المثقالِ"، فعلى أن في ﴿تَكُ﴾ مجهولًا، والرفعُ فيه على أن الخبرَ مضمرٌ، كأنه قيل: إن تكُ في موضعٍ مثقالُ حبةٍ. لأن النكراتِ تُضْمَرُ أخبارُها، ثم يُترجَمُ عن المكانِ الذي فيه مثقالُ الحبةِ.
وعَنَى بقولِه: ﴿مِثْقَالَ حَبَّةٍ﴾: زِنةَ حبةٍ. فتأويلُ الكلامِ إذن: إِنَّ الأمرَ إن يكُ زِنةَ حبةٍ من خردلٍ من خيرٍ أو شرٍّ عمِلتَه، ﴿فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ
(١) معاني القرآن ٢/ ٣٢٨. (٢) هو الأعشى ميمون بن قيس، ديوانه ص ١٢٣. (٣) في ص، ت ١: "تك"، وفي ت ٢: "تكن".