نصَب قولَه: ﴿فَقَلِيلًا﴾ لأنه نعتٌ للمصدرِ المتروكِ ذكرُه، ومعناه: بل لعَنهم اللهُ بكفرِهم، فإيمانًا قليلًا ما يؤمنون. فقد تبيَّن إذن -بما بيَّنَّا- فسادُ القولِ الذى رُوِى عن قتادةَ في ذلك؛ لأن معنى ذلك لو كان على ما رُوِى عنه مِن أنه يعنى به: فلا يُؤْمِنُ منهم إلَّا قليلٌ، أو فقليلٌ منهم مَن يُؤْمِنُ. لكان "القليلُ" مرفوعًا لا منصوبًا، لأنه إذا كان ذلك تأويلَه كان "القليلُ" حينئذٍ مُرَافِعًا "ما"، وإن نُصِب "القليلُ" -و"ما" في معنى "مَن" أو "الذى"- بقِيت "ما" لا مُرَافِعَ لها، وذلك غيرُ جائزٍ في لغةِ أحدٍ مِن العربِ.
فأمَّا أهلُ العربيةِ فإنهم اخْتَلَفُوا في معنى ﴿مَا﴾ التى في قولِه: ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾؛ فقال بعضُهم: هى زائدةٌ لا معنى لها، وإنما تأويلُ الكلامِ: فقليلًا يؤمنون. كما قال جل ثناؤُه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٩] وما أشبهَ ذلك. فزعَم أن "ما" في ذلك زائدةٌ، وأن معنى الكلامِ: فبرحمةٍ مِن اللهِ لِنْتَ لهم. وأنشَد مُحْتَجًّا لقولِه ذلك بيتَ مُهَلْهِلٍ (١):
وزعَم أنه يعنى: خُضِّب أنفُ خاطبٍ بدمٍ. وأن "ما" زائدةٌ.
وأنكَر آخَرون ما قاله قائلُ هذا القولِ في "ما" في الآيةِ، وفى البيتِ الذى أنشَده، وقالوا: إنما ذلك مِن المتكلِّم على ابتداءِ الكلامِ بالخبرِ عن عمومِ جميعِ الأشياءِ؛ إذ كانت "ما" كلمةً تَجْمَعُ كلَّ الأشياءِ، ثم تَخُصُّ [بعضَ ما عمَّته "ما" بما يُذْكَرُ] (٥) بعدَها.
(١) شرح المفصل ١/ ٤٦، والكامل ٣/ ٩١. (٢) أبانٌ جَبَلٌ، وهما أبانان: أبان الأسود وأبان الأبيض. قاله المبرد. (٣) في الأصل، ت ١: "جئت تخطبها". (٤) في المفصل: "رُمِّل"، وفى الكامل: "ضرج". وكل ذلك بمعنى. (٥) في م، ت ١، ت ٢، ت ٣: "وتعمُّ ما عمَّته بما تذكره".