للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حارب اللّه لرغبة في دنيا ولا طلب للاستثكار منها، إلاّ أنّ اللّه ﷿ قد أحلّ لنا ذلك، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالا؛ وما يبالي أحدنا إن كان له قنطار من ذهب أم كان لا يملك إلاّ درهما، لأنّ غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسدّ بها جوعه لليله ونهاره، وشملة يلتحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلاّ ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة اللّه، واقتصر على هذا الذي بيده ويبلغه ما كان في الدنيا، لأنّ نعيم الدّنيا ليس بنعيم ورخاءها ليس برخاء، إنّما النّعيم والرّخاء في الآخرة. وبذلك أمرنا اللّه (a)، وأمرنا به نبيّنا وعهد إلينا ألاّ تكون همّة أحدنا من الدنيا إلاّ ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همّته وشغله في رضاء ربّه وجهاد عدوّه.

فلمّا سمع المقوقس ذلك منه، قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرّجل قطّ؟ لقد هبت منطره، وإنّ قوله لأهيب عندي من منظره، إنّ هذا وأصحابه أخرجهم اللّه لخراب الأرض، ما أظنّ ملكهم إلاّ سيغلب على الأرض كلّها.

ثم أقبل المقوقس على عبادة بن الصّامت فقال له: أيّها الرّجل الصّالح، قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك. ولعمري ما بلغتم ما بلغتم إلاّ بما ذكرت، وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلاّ لحبّهم الدّنيا ورغبتهم فيها. وقد توجّه إلينا لقتالكم من جمع الرّوم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنّجدة والشّدّة، ما يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإنّا لنعلم أنّكم لم تقدروا عليهم، ولن تطيقوهم لضعفكم وقلّتكم. وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا وأنتم في ضيق وشدّة من معاشكم وحالكم، ونحن نرقّ عليكم لضعفكم وقلّتكم وقلّة ما بين أيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكلّ رجل منكم دينارين دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به.

فقال عبادة بن الصّامت: يا هذا لا تغرّن نفسك ولا أصحابك، أمّا ما تخوّفنا به من جمع الرّوم وعددهم وكثرتهم وأنّا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا بالذي تخوّفنا به، ولا بالذي يكسرنا عمّا نحن فيه. وإن كان ما قلتم حقّا فذلك واللّه أرغب ما يكون في قتالهم، وأشدّ لحرصنا عليهم، لأنّ ذلك أعذر لنا عند ربّنا إذا قدمنا عليه؛ إن قتلنا عن آخرنا، كان أمكن لنا في رضوانه وجنّته، وما شيء أقرّ لأعيننا، ولا أحبّ لنا من ذلك. وإنّا منكم حينئذ لعلى إحدى


(a) فتوح مصر: ربّنا.