ألا ترون أنّكم جهلتم أنفسكم التي من جهلها كان حريّا ألاّ يعلم غيرها؟ أليس اللّه تعالى يقول: ﴿وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾ [الآية ٧٣ سورة الإسراء]؛ ونحو ذلك من تأويل القرآن، وتفسير السّنن والأحكام، وإيراد أبواب من التّجويز والتّعليل.
فإذا علم الداعي أنّ نفس المدعو قد تعلّقت بما سأله عنه، وطلب منه الجواب عنها، قال له حينئذ: لا تعجل فإنّ دين اللّه أعلى وأجلّ من أن يبذل لغير أهله، ويجعل غرضا للعب. وجرت عادة اللّه وسنّته في عباده، عند شرع من نصبه، أن يأخذ العهد على من يرشده، ولذلك قال:
﴿وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً﴾ [الآية ٧ سورة الأحزاب]؛ وقال/ ﷿: ﴿مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اَللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ [الآية ٢٣ سورة الأحزاب]؛ وقال ﷻ: ﴿يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [الآية ١ سورة المائدة]، قال: ﴿وَلا تَنْقُضُوا اَلْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اَللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ * * وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً﴾ [الآيتان ٩١، ٩٢ سورة النحل]، وقال: ﴿لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ﴾ [الآية ٧٠ سورة المائدة]، ومن أمثال هذا.
فقد أخبر اللّه تعالى أنّه لم يملّك حقّه إلاّ لمن أخذ عهده، فأعطنا صفقة يمينك، وعاهدنا بالموكد من أيمانك وعقودك: ألاّ تفشي لنا سرّا، ولا تظاهر علينا أحدا، ولا تطلب لنا غيلة، ولا تكتمنا نصحا، ولا توالي لنا عدوّا.
فإذا أعطى العهد قال له الداعي: أعطنا جعلا من مالك وغرما (a) نجعله مقدّمة أمام كشفنا لك الأمور وتعريفك إيّاها - والرّسم في هذا الجعل بحسب ما يراه الداعي - فإن امتنع المدعو أمسك عنه الدّاعي، وإن أجاب وأعطى نقله إلى الدّعوة الثانية.
لا تكون إلاّ بعد تقدّم الدّعوة الأولى. فإذا تقرّر في نفس المدعو جميع ما تقدّم (b) وعاهد الدّاعي (b) وأعطى الجعل، قال له الداعي: إنّ اللّه تعالى لم يرض في إقامة حقّه وما شرعه لعباده، إلاّ أن يأخذوا ذلك عن أئمّة نصبهم للنّاس، وأقامهم لحفظ شريعته على ما أراده