هذا هو محمّد بن فضل اللّه القاضي فخر الدّين، ناظر الجيش المعروف بالفخر (١) - كان في نصرانيته متألّها ثم أكره على الإسلام، فامتنع وهمّ بقتل نفسه وتغيّب أيّاما ثم أسلم وحسن إسلامه، وأبعد النّصارى ولم يقرّب أحدا منهم، وحجّ غير مرّة، وتصدّق في آخر عمره مدّة في كلّ شهر بثلاثة آلاف درهم نقرة.
وبنى عدّة مساجد بديار مصر، وأنشأ عدّة أحواض ماء للسّبيل في الطّرقات، وبنى مارستانا بمدينة الرّملة ومارستانا بمدينة بلبيس، وفعل أنواعا من الخير، وكان حنفيّ المذهب، وزار القدس عدّة مرار، وأحرم مرّة من القدس بالحجّ، وسار إلى مكّة محرما، وكان إذا خدمه أحد مرّة واحدة صار صاحبه طول عمره.
وكان كثير الإحسان، لا يزال في قضاء حوائج النّاس، مع عصبيّة شديدة لأصحابه. وانتفع به خلق كثير لوجاهته عند السّلطان وإقدامه عليه. بحيث لم يكن لأحد من أمراء الدّولة عند الملك النّاصر محمد بن قلاوون ما له من الإقدام، ولقد قال السّلطان مرّة لجندي طلب منه إقطاعا: لا تطوّل، واللّه لو أنّك ابن قلاوون ما أعطاك القاضي فخر الدّين خبزا يغل أكثر من ثلاثة آلاف درهم. وقال له السّلطان في يوم من الأيّام - وهو بدار العدل - يا فخر الدّين تلك القضيّة طلعت فاشوش، فقال له: ما قلت لك إنّها عجوز نحس [وتكذب] (a)، يريد بذلك بنت كوكاي امرأة السّلطان عند ما ادّعت أنّها حبلى.
وله من الأخبار كثير، وكان أوّلا كاتب المماليك السّلطانية، ثم صار من كتابة المماليك إلى وظيفة نظر الجيش، ونال من الوجاهة ما لم ينله غيره في زمانه.
وكان الأمير أرغون، نائب السّلطنة بديار مصر، يكرهه، وإذا جلس للحكم يعرض عنه ويدير كتفه إلى وجه الفخر. فعمل عليه الفخر حتى سار للحجّ، فقال للسّلطان: يا خوند، ما يقتل
(a) زيادة من أعيان العصر مصدر النّقل. - وجدّد هذا الجامع في سنة ١٢١٨ هـ/ ١٨٠٣ م محمد بك طاهر بن أحمد باشا طاهر كما هو مذكور في اللّوح المثبت بأعلى باب الجامع. (أبو المحاسن: النجوم الزاهرة ٢٠١: ٩ هـ ٢). (١) انظر ترجمته كذلك عند، الصفدي: أعيان العصر ٥٣: ٥ - ٥٨ (مصدر المقريزي)، الوافي بالوفيات ٣٣٥: ٤ - ٣٣٧؛ المقريزي: السلوك ٣٥٤: ٢، المقفى الكبير ٥١٦: ٦ - ٥٢٠؛ ابن حجر: الدرر الكامنة ٢٥٥: ٤ - ٢٥٦؛ أبي المحاسن: النجوم الزاهرة ٢٩٥: ٩، الدليل الشافي ٦٧٣ - ٦٧٤.