اعلم أنّ النّيل إذا انتهت زيادته فتحت منه خلجان وترع يتخرّق الماء فيها يمينا وشمالا إلى البلاد البعيدة عن مجرى النّيل. وأكثر الخلجان والتّرع والجسور والأخوار بالوجه البحري، وأمّا الوجه القبلي - وهو بلاد الصّعيد - فإنّ ذلك قليل فيه، وقد ذهبت معالمه ودرست رسومه من هناك (a) (١).
والمشهور من الخلجان: خليج سخا (b)، وخليج منف، وخليج المنهى، وخليج أشموم طناح، وخليج سردوس، وخليج الإسكندرية، وخليج دمياط، وخليج القاهرة، وبحر أبي المنجّا، والخليج النّاصري ظاهر القاهرة (٢).
قال ابن عبد الحكم، عن أبي رهم السّماعيّ، قال: كانت مصر ذات قناطر وجسور بتقدير وتدبير، حتى إنّ الماء ليجري تحت منازلها وأقنيتها فيحبسونه كيف شاءوا ويرسلونه كيف شاءوا، فذلك قوله تعالى عما حكى عن قول فرعون: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ اَلْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الآية ٥١ سورة الزخرف]. ولم يكن يومئذ في الأرض ملك أعظم من ملك مصر، وكانت الجنّات بحافتي النّيل من أوّله إلى آخره في الجانبين معا جميعا - ما بين أسوان إلى رشيد، وسبع خلج: خليج الإسكندرية، وخليج سخا، وخليج دمياط، وخليج منف، وخليج الفيّوم، وخليج المنهى، وخليج سردوس - جنّات متّصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء، والزّرع ما بين الجبلين من أوّل مصر إلى آخرها ممّا يبلغه الماء.
وكان جميع أرض مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعا، لما قدّروا ودبّروا من قناطرها وخلجها وجسورها، فذلك قوله تعالى: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * * وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ﴾ [الآيتان ٢٥، ٢٦ سورة الدخان]. قال: والمقام الكريم: المنابر، كان بها ألف منبر (٣).
(a) بولاق: هنالك. (b) بولاق: منجا. (١) اقتباسا من ابن مماتي: قوانين الدواوين ٢٠٦. (٢) قارن ابن زولاق: فضائل مصر ٥٤؛ ابن مماتي: قوانين الدواوين ٢٠٥ - ٢٠٦؛ القلقشندي: صبح الأعشى ٢٩٧: ٣ - ٣٠٢؛ ابن ظهيرة: الفضائل الباهرة ١١٢؛ أبا المحاسن: النجوم الزاهرة ٥٦: ١. (٣) ابن عبد الحكم: فتوح مصر ٦.