وكان سبب بنائها أنّ السّلطان صلاح الدّين يوسف بن أيّوب لمّا أزال الدّولة الفاطميّة من مصر، واستبدّ بالأمر، لم يتحوّل من دار الوزارة بالقاهرة، ولم يزل يخاف على نفسه من شيعة الخلفاء الفاطميين بمصر، ومن الملك العادل نور الدّين محمود بن زنكي سلطان الشّام. فامتنع أوّلا من نور الدّين بأن سيّر أخاه الملك المعظّم شمس الدّولة توران شاه بن أيّوب، في سنة تسع وستين وخمس مائة، إلى بلاد اليمن لتصير له مملكة تعصمه من نور الدّين، فاستولى شمس الدّولة على ممالك اليمن (١).
وكفى اللّه تعالى صلاح الدّين أمر نور الدّين ومات في تلك السنة، فخلا له الجوّ وأمن جانبه.
وأحبّ أن يجعل لنفسه معقلا بمصر، فإنّه كان قد قسم القصرين بين أمرائه وأنزلهم فيهما. فيقال إنّ السّبب الذي دعاه إلى اختيار مكان قلعة الجبل، أنّه علّق اللّحم بالقاهرة فتغيّر بعد يوم وليلة، فعلّق لحم حيوان آخر في موضع القلعة فلم يتغيّر إلاّ بعد يومين وليلتين، فأمر حينئذ بإنشاء قلعة هناك وأقام على عمارتها الأمير الطّواشي (a) بهاء الدّين قراقوش الأسدي. فشرع في بنائها، وبنى سور القاهرة الذي زاده في سنة اثنتين وسبعين وخمس مائة، وهدم ما كان (b) من المساجد، وأزال القبور، وهدم الأهرامات (c) الصّغار التي كانت بالجيزة تجاه مدينة (a) مصر - وكانت كثيرة العدد - ونقل ما وجد بها من الحجارة، وبنى به السّور والقلعة وقناطر الجيزة، وقصد أن يجعل السّور يحيط بالقاهرة والقلعة ومصر، فمات السّلطان قبل أن يتمّ الغرض من السّور والقلعة (٢). فأهمل
(a) ساقطة من بولاق. (b) بولاق: هنالك. (c) بولاق: الأهرام. (١) فيما تقدم ١٠٩. (٢) فيما تقدم ٢٦٤: ٢ - ٢٦٧، وهذا المجلد ٥٠٨. ولدينا وصف هامّ معاصر لبناء القلعة يفيدنا - على الأخصّ - في معرفة المسخّرين في بنائها، فقد كان الرّحّالة ابن جبير الأندلسي في مصر سنة ٥٧٩ هـ/ ١١٨٣ م عند الانتهاء من بناء القسم الأوّل من القلعة، وترك لنا الوصف التالي: «وشاهدنا أيضا بناء القلعة - وهو حصن يتّصل بالقاهرة حصين المنعة - يريد السّلطان أن يتّخذه موضع سكناه، ويمدّ سوره حتى ينتظم بالمدينتين مصر والقاهرة. والمسخّرون في هذا البنيان والمتولّون لجميع امتهاناته -