للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

واستمرّ سكنى الرّعيّة بالفسطاط، وبلغ من وفور العمارة وكثرة الخلائق ما أربى على عامّة مدن المعمور - حاشا بغداد (١) - وما زال على ذلك حتى تغلّب الفرنج على سواحل البلاد الشّاميّة، ونزل مرّي [Amaury] ملك الفرنج بجموعه الكثيرة على بركة الحبش يريد الاستيلاء على مملكة مصر وأخذ الفسطاط والقاهرة. فعجز الوزير شاور بن مجير السّعدي عن حفظ البلدين معا، فأمر النّاس بإخلاء مدينة الفسطاط واللّحاق بالقاهرة للامتناع من الفرنج - وكانت القاهرة إذ ذاك من الحصانة والامتناع بحيث لا ترام - فارتحل النّاس من الفسطاط، وساروا بأسرهم إلى القاهرة، وأمر شاور فألقى العبيد النّار في الفسطاط، فلم تزل به بضعا وخمسين يوما حتى احترقت أكثر مساكنه (٢).

فلمّا رحل مرّي [Amaury] عن القاهرة، واستولى شيركوه على الوزارة، تراجع النّاس إلى الفسطاط ورمّوا بعض شعثه، ولم يزل في نقص وخراب إلى يومنا هذا.

وقد صار الفسطاط يعرف في زمننا ب «مدينة مصر»، واللّه أعلم.

ذكر ما كان عليه موضع الفسطاط قبل الإسلام إلى أن اختطّه المسلمون مدينة

اعلم أنّ موضع «الفسطاط» - الذي يقال له اليوم «مدينة مصر» - كان فضاء ومزارع فيما بين النّيل والجبل الشّرقي الذي يعرف بالجبل المقطّم، ليس فيه من البناء والعمارة سوى حصن، يعرف اليوم بعضه ب «قصر الشّمع» وب «المعلّقة»، ينزل به شحنة الرّوم المتولّي على مصر من قبل القياصرة ملوك الرّوم، عند مسيره من مدينة الإسكندرية، ويقيم فيه ما شاء، ثم يعود إلى دار الإمارة ومنزل الملك من الإسكندرية.

وكان هذا الحصن مطلاّ على النّيل، وتصل السّفن في النّيل إلى بابه الغربي الذي كان يعرف بباب الحديد، ومنه ركب المقوقس في السّفن (a) حين غلبه المسلمون على الحصن المذكور، وصار


(a) بعد ذلك في بولاق: في النيل من بابه الغربي!
(١) ذكر الرحالة المقدسي البشاري الذي زار مصر في نهاية القرن الرابع الهجري بعد تأسيس الفاطميين لدولتهم في مصر في حديثه عن الفسطاط أنّه «مصر مصر وناسخ بغداد ومفخر الإسلام ومتجر الأنام، وأجل من مدينة السلام … ليس في الأمصار آهل منه … » (المقدسي: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ١٩٧)، وانظر فيما يلي ٢٠٧.
(٢) فيما يلي ١٤٢ - ١٤٦.