بأسا، ولا أقسى قلبا ولا أكثر عنتا. فلقي العمّال منه مشقّات لا توصف، وجاء مناسبا لمولاه.
وحمل مع هذا إلى هذه العمارة سائر ما يحتاج إليه من الأمتعة وأصناف الآلات، وأنواع الاحتياجات من الحجر والخشب والرّخام والدّهان وغيره، من غير أن يدفع في شيء منه ثمنا ألبتّة، وإنّما كان يأخذ ذلك إمّا بطريق الغصب من الناس، أو على سبيل الخيانة من عمائر السّلطان، فإنّه كان من جملة ما بيده شدّ العمائر السّلطانية.
وناسب هذه الأفعال أنّه ما عرف عنه قطّ أنّه نزل إلى هذه العمارة إلاّ وضرب فيها من الصّنّاع عدّة ضربا مؤلما، فيصير ذلك الضّرب زيادة على عمله بغير أجرة، فيقال فيه: كملت خصالك هذه بقماري. فلمّا فرغ من بنائها، جمع فيها سائر الفقهاء وجميع القضاة.
وكان الشّريف شرف الدّين عليّ بن شهاب الدّين الحسين بن محمد بن الحسين - نقيب الأشراف ومحتسب القاهرة حينئذ - يؤمّل أن يكون مدرّسها، وسعى عنده في ذلك، فعمل بسطا على قياسها بلغ ثمنها ستة آلاف درهم فضّة، ورشاه بها ففرشت هناك. ولمّا تكامل حضور الناس بالمدرسة - وفي الذّهن أنّ الشّريف يلي التّدريس، وعرف أنّه هو الذي أحضر البسط التي قد فرشت - قال الأمير آقبغا لمن حضر: لا أولّي في هذه الأيّام أحدا، وقام فتفرّق الناس.
وقرّر فيها درسا للشّافعيّة ولي تدريسه … (a) ودرسا للحنفيّة ولي تدريسه (a)،
وجعل فيها عدّة من الصّوفية ولهم شيخ، وقرّر بها طائفة من القرّاء يقرأون القرآن بشبّاكها، وجعل لها إماما راتبا ومؤذّنا وفراشين وقومة ومباشرين، وجعل النظر للقاضي الشّافعي بديار مصر، وشرط في كتاب وقفه أن لا (b) يلي النظر أحد من ذرّيته، ووقف على هذه الجهات حوانيت خارج باب زويله بخطّ تحت الرّبع، وقرية بالوجه القبلي.
وهذه المدرسة عامرة إلى يومنا هذا، إلاّ أنّه تعطّل منها الميضأة، وأضيفت إلى ميضأة الجامع لتغلّب بعض الأمراء - بمواطأة بعض النظّار - على بئر السّاقية التي كانت برسمها.
[آقبغا عبد الواحد]
الأمير علاء الدّين (١) - أحضره إلى القاهرة التاجر عبد الواحد بن بدال، فاشتراه منه الملك الناصر محمد بن قلاوون ولقّبه باسم تاجره الذي أحضره، فحظي عنده وعمله شادّ العمائر، فنهض فيها نهضة أعجبت به السّلطان وعظّمه حتى
(a) بياض في آياصوفيا وميونخ. (b) بولاق: ألاّ. (١) انظر ترجمة الأمير آقبغا عبد الواحد كذلك عند، الصفدي: أعيان العصر ٥٤٨: ١ - ٥٤٩؛ ابن حجر: الدرر -