لا تكون إلاّ بعد ثبوت جميع ما تقدّم في نفس المدعو، وذلك أنّه إذا صار إلى الرّتبة الخامسة، أخذ الداعي في تفسير معاني شرائع الإسلام - من الصّلاة والزّكاة والحجّ والطّهارة وغير ذلك من الفرائض - بأمور مخالفة للظّاهر، بعد تمهيد قواعد تبين في أزمنة من غير عجلة. تؤدّي إلى أنّ هذه الأشياء وضعت على جهة الرّموز لمصلحة العامّة وسياسة أمورهم (a)، حتى يشتغلوا بها عن بغي بعضهم على بعض، وتصدّهم عن الفساد في الأرض حكمة من الناصبين للشّرائع، وقوّة في حسن سياستهم لأتباعهم، وإتقانا منهم لما رتّبوه من النواميس ونحو ذلك حتى يتمكّن هذا الاعتقاد في نفس المدعو.
فإذا طال الزّمان، وصار المدعو ولا بد (b) يعتقد أنّ أحكام الشّريعة كلّها وضعت على سبيل الرّمز لسياسة العامّة، وأنّ لها معاني أخر غير ما يدلّ عليه الظّاهر، نقله الداعي إلى الكلام في الفلسفة، وحضّه على النّظر في كلام أفلاطون وأرسطو وفيثاغورس ومن في معناهم، ونهاه عن قبول الأخبار والاحتجاج بالسّمعيات، وزيّن له الاقتداء بالأدلّة العقلية والتّعويل عليها.
فإذا استقرّ ذلك/ عنده واعتقده، نقله بعد ذلك إلى الدّعوة السّابعة، ويحتاج ذلك إلى زمان طويل.
الدّعوة السّابعة -
لا يفصح بها الدّاعي ما لم يكثر أنسه بمن دعاه، ويتيقّن أنّه قد تأهّل إلى الانتقال إلى رتبة أعلى ممّا هو فيه، فإذا علم ذلك منه قال: اعلم (c) أنّ صاحب الدّلالة والنّاصب للشّريعة لا يستغني بنفسه، ولا بد له من صاحب معه يعبّر عنه، ليكون أحدهما الأصل والآخر عنه كان وصدر. وهذا إنّما هو إشارة العالم السّفلي لما يحويه العالم العلوي، فإنّ مدبّر العالم في أصل الترتيب وقوام النّظام صدر عنه أوّل موجود بغير واسطة ولا سبب نشأ عنه، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [الآية ٨٢ سورة يس] إشارة إلى الأوّل في الرّتبة، والآخر هو القدر الذي قال فيه: ﴿إِنّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾ [الآية ٤٩ سورة القمر]، وهذا معنى ما نسمعه من أنّ اللّه أوّل ما خلق القلم فقال للقلم «اكتب» فكتب في اللّوح ما هو كائن.
وأشياء من هذا النوع موجودة في كتبهم، وأصلها مأخوذ من كلام الفلاسفة القائلين: الواحد لا يصدر عنه إلاّ واحد، وقد أخذ هذا المعنى المتصوّفة وبسطوه بعبارات أخر في كتبهم. فإن
(a) بولاق: سياستهم. (b) ولا بد: ساقطة من بولاق. (c) ساقطة من بولاق.