للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[الهودج -]

قال ابن سعيد في كتاب «المحلّى بالأشعار» عن تاريخ القرطي (a): قد أكثر النّاس في حديث البدويّة وابن ميّاح من بني عمّها، وما يتعلّق بذلك من ذكر الخليفة الآمر بأحكام اللّه، حتى صارت رواياتهم في هذا الشأن كأحاديث البطّال وألف ليلة وليلة وما أشبه ذلك (١).

والاختصار منه أن يقال: إنّ الخليفة الآمر كان قد ابتلي بعشق الجواري العربيّات، وصارت له عيون في البوادي. فبلغه أن بالصّعيد جارية من أكمل العرب وأظرف نسائهم شاعرة جميلة.

فيقال إنّه تزيّا بزيّ بداة الأعراب، وصار يجول في الأحياء إلى أن انتهى إلى حيّها، وبات هناك/ في ضائقة، وتحيّل حتى عاينها فما ملك صبره، ورجع إلى مقرّ ملكه وسرير خلافته، فأرسل إلى أهلها يخطبها، فأجابوه إلى ذلك وزوّجوها منه.

فلمّا صارت إلى القصور، صعب عليها مفارقة ما اعتادت، وأحبّت أن تسرح طرفها في الفضاء، ولا تقبض نفسها تحت حيطان المدينة. فبنى لها البناء المشهور في جزيرة الفسطاط المعروف ب «الهودج»، وكان على شاطئ النّيل في شكل غريب.

وكان بالإسكندرية القاضي مكين الدّولة أبو طالب أحمد بن عبد المجيد بن أحمد بن الحسن ابن حديد، قد استولى على أمورها، وصار قاضيها وناظرها، ولم يبق لأحد معه فيها كلام، وضمن أموالها بجملة يحملها.

وكان ذا مروءة عظيمة يحتذى أفعال البرامكة، وللشّعراء فيه مدائح كثيرة، وممّن مدحه ظافر الحدّاد، وأميّة بن أبي الصّلت، وجماعة. وكان الأفضل بن أمير الجيوش إذا أراد الاعتناء بأحد كتب معه كتابا إلى ابن حديد هذا، فيغنيه بكثرة عطائه.

وكان له بستان يتفرّج فيه، به جرن كبير من رخام قطعة واحدة ينحدر فيه الماء فيبقى كالبركة من سعته، وكان يجد في نفسه برؤية هذا الجرن زيادة على أهل النّعم، ويباهي به أهل عصره. فوشي به للبدويّة محبوبة الخليفة، فطلبته من الخليفة، فأنفذ في الحال بإحضاره.


(a) بولاق: القرطبي.
(١) انظر فيما تقدم ٥٧٧: ٢ - ٥٨٠.