فلمّا جرى الماء في الخليج النّاصريّ، ودخل منه إلى هذه البركة، عمل الجسر بين البركة والخليج، فحكره النّاس، وبنوا فوقه الدّور، ثم تتابعوا في البناء حول البركة حتى لم يبق بدائرها خلوّ، وصارت المراكب تعبر إليها من الخليج النّاصريّ، فتدورها تحت البيوت وهي مشحونة بالنّاس، فتمرّ هنالك للنّاس أحوال من اللّهو يقصر عنها الوصف.
وتظاهر النّاس في المراكب بأنواع المنكرات من شرب المسكرات، وتبرّج النّساء الفاجرات واختلاطهنّ بالرّجال من غير إنكار. فإذا نضب ماء النّيل زرعت هذه البركة بالقرط وغيره، فيجتمع فيها من النّاس في يومي الأحد والجمعة عالم لا يحصى لهم عدد.
وأدركت بهذه البركة، من بعد سنة سبعين وسبع مائة إلى سنة ثمان مائة، أوقاتا انكفّت فيها عمّن كان بها أيدي الغير، ورقدت عن أهاليها أعين الحوادث، وساعدهم الوقت إذ النّاس ناس والزّمان زمان. ثم لمّا تكدّر جوّ المسرّات، وتقلّص ظلّ الرّفاهة، وانهلّت سحائب المحن من سنة ستّ وثمان مائة تلاشى أمرها.
وفيها إلى الآن بقيّة صبابة، ومعالم أنس، وآثار تنبئ عن حسن عهد. وللّه درّ القائل (١):
[السريع]
في أرض طبّالتنا بركة … مدهشة للعين والعقل
ترجح في ميزان عقلي على … كلّ بحار الأرض بالرّطل
/ البركة المعروفة ببطن البقرة
هذه البركة كانت فيما بين أرض الطّبّالة وأراضي اللّوق، يصل إليها ماء النّيل من الخور، فيعبر في خليج الذّكر إليها، وكانت تجاه قصر اللّؤلؤة ودار الذّهب في برّ الخليج الغربي (٢). وأوّل ما
(١) انظر الأبيات عند ابن إياس: بدائع الزهور ٦٠: ١/ ١، ٤٥٦. (٢) كانت بركة بطن البقرة تمتدّ في العصر الفاطمي في المنطقة التي يحدّها من الشمال خطّ يسير من ميدان القمح إلى جامع الرّويعي ثم حارة الرّويعي وشارع وجه البركة إلى ميدان قنطرة الدّكّة، ومن الغرب شارع كامل إلى ميدان الأوبرا، ومن الجنوب النهاية القبلية لميدان الأوبرا وشارع طاهر وشارع الموسكي، ومن الشرق خطّ يسير موازيا للخليج المصري مارّا بشوارع المزين والبنداقة والرّملي حتى ميدان القمح. ومع توالي الأعوام تحوّلت أراضي بطن البقرة إلى مبان وبساتين وأخذ مسطّحها يضيق حتى أصبحت تشغل الجزء الذي يحدّه من الشمال شارع وجه البركة ومن الجنوب النهاية القبلية لميدان الأوبرا. ودخلت هذه البركة في المشروع العمراني الذي قام به المقرّ الأتابكي أزبك من ططخ الظّاهري في هذه المنطقة بين سنتي ٨٨٠ - ٨٨٨ هـ/ ١٤٧٦ - ١٤٨٤ م، والذي نسبت إليه المنطقة والبركة التي أجرى إليها الماء من الخليج النّاصري. وردمت هذه البركة في منتصف القرن التاسع عشر وأقيم على أرضها حديقة -