اعلم أنّ القاهرة مذ أسّست عمل سورها ثلاث مرّات: الأولى وضعه القائد جوهر، والمرّة الثانية وضعه أمير الجيوش بدر الجمالي في أيّام الخليفة المستنصر، والمرّة الثالثة بناه الأمير الخصيّ بهاء الدّين قراقوش الأسدي في سلطنة الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف بن أيّوب أوّل ملوك القاهرة.
السّور الأوّل
كان من لبن وضعه جوهر القائد على مناخه الذي نزل به هو وعساكره حيث القاهرة الآن، فأداره على القصر والجامع (١). وذلك أنّه لمّا سار من الجيزة، بعد زوال الشّمس من يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شعبان سنة ثمان وخمسين وثلاث مائة بعساكره، وقصد إلى مناخه الذي رسمه له مولاه الإمام المعزّ لدين اللّه أبو تميم معدّ، واستقرّت به الدار، اختطّ القصر، وأصبح المصريون يهنّئونه فوجدوه قد حفر الأساس في اللّيل، فأدار السّور اللّبن، وسمّاها «المنصوريّة»(٢)، إلى أن قدم المعزّ لدين اللّه من بلاد المغرب إلى مصر ونزل بها فسمّاها «القاهرة».
ويقال في سبب تسميتها: إنّ القائد جوهرا لمّا أراد بناءها أحضر المنجّمين وعرّفهم أنّه يريد عمارة بلد ظاهر مصر لتقيم بها الجند، وأمرهم باختيار طالع سعيد لوضع الأساس بحيث لا يخرج البلد عن نسلهم أبدا. فاختاروا طالعا لوضع الأساس وطالعا لحفر السّور، وجعلوا بدائر السّور قوائم خشب بين كلّ قائمتين حبل فيه أجراس، وقالوا للعمّال:«إذا تحرّكت الأجراس فارموا ما بأيديكم من الطّين والحجارة». فوقفوا ينتظرون الوقت الصّالح لذلك، فاتّفق أنّ غرابا وقع على حبل من تلك الحبال التي فيها الأجراس فتحرّكت كلّها، فظنّ العمّال أنّ المنجّمين قد حرّكوها، فألقوا ما بأيديهم من الطين والحجارة وبنوا، فصاح المنجّمون:«القاهر في الطّالع»، فمضى ذلك وفاتهم ما قصدوه. ويقال إنّ المرّيخ كان في الطّالع عند ابتداء وضع الأساس -
(١) عن سور القاهرة الأوّل الذي بناه جوهر انظر Fu'?d Sayyid، A.، op.cit، pp. ١٤٧ - ٦٢. (٢) أطلق جوهر على المدينة اسم «المنصورية» تيمنّا باسم «صبرة المنصورية» التي أنشأها الخليفة الفاطمي الثالث المنصور باللّه والد المعزّ لدين اللّه بالقرب من مدينة القيروان. (راجع (Fu'?d Sayyid، A.، op.cit.، pp. ١٠٣ - ١٠٦.