هذه الدّار بخط بين القصرين من القاهرة، كانت في آخر الدّولة الفاطمية، لمّا قويت شوكة الفرنج، قد أعدّت لمن يجلس فيها من قصّاد الفرنج عندما تقرّر الأمر معهم على أن يكون نصف ما يتحصّل من مال البلد للفرنج، فصار يجلس في هذه الدّار قاصد معتبر عند الفرنج لقبض (a) المال.
فلمّا زالت الدّولة بالغزّ، ثم زالت دولة بني أيّوب، وولي سلطنة مصر الملوك من الترك إلى أن كانت أيّام الملك الظّاهر ركن الدّين بيبرس البندقداري، شرع الأمير بدر (b) الدّين بيسري الشّمسي الصّالحي النّجمي في عمارتها في سنة تسع وخمسين وستّ مائة، وتأنّق في عمارتها، وبالغ في كثرة المصروف عليها. فأنكر الملك الظّاهر ذلك من فعله، وقال له: يا أمير بدر الدّين أيّ شيء خلّيت للغزاة واليزك (c) (١)؟ فقال: صدقات السّلطان، واللّه يا خوند ما بنيت هذه الدّار إلاّ حتى يصل خبرها إلى بلاد العدو، ويقال بعض مماليك السّلطان عمّر دارا غرم عليها مالا عظيما.
فأعجب ذلك من قوله السّلطان، وأنعم له (d) بألف دينار عينا. وعدّ هذا من أعظم إنعام السّلطان (e).
فجاء سعة هذه الدّار بإسطبلها وبستانها والحمّام بجانبها نحو فدّانين، ورخامها من أبهج رخام عمل في القاهرة وأحسنه صنعة، وكثر تعجّب النّاس إذ ذاك من عظمها لما كان فيه أمراء الدّولة ورجالها حينئذ من الاقتصاد، حتى إنّ الواحد منهم إذا صار أميرا لا يتغيّر عن داره التي كان يسكنها وهو من الأجناد.
وعند ما كملت عمارة هذه الدّار وقفها، وأشهد عليه بوقفها اثنين وتسعين عدلا: من جملتهم قاضي القضاة تقيّ الدّين بن دقيق العيد، وقاضي القضاة تقيّ الدّين ابن بنت الأعزّ، وقاضي القضاة تقيّ الدّين بن رزين، قبل ولايتهم القضاء في حال تحمّلهم الشّهادة.
(a) بولاق: يقبض. (b) بولاق: ركن. (c) في المقفى (٥٨٠: ٢): يا أمير ماذا خليت للبيكار؟ فقد أنفقت مالك جميعه في عمارة دار. (d) بولاق: عليه. (e) مسودة المواعظ: ولم يسمع عن الملك الظاهر بيبرس إنعام أكثر من هذا. المجيد اللّبّان (مرسينا) بشارع بور سعيد قرب ميدان السيدة زينب. (النجوم الزاهرة ١٨٨: ٩ هـ ٤). (١) اليرك. مجموعة من الحرس المتقدّم، يكون من المدينة وبين العدو، مانعا من يدخل أو يخرج من العسكر. Dozy،) (R.، Suppt.Dict.Ar.II، p. ٨٥٩.