الذّروة بفنّ الخطط في كتابه «المواعظ»، كما أنّ المقريزي - وإن لم يكن آخر المؤلّفين في هذا المجال - إلاّ أنّه أعظمهم مكانة.
وقد ركّز المقريزي جهده الأكبر في هذا الكتاب (الأجزاء الثاني والثالث والرابع) للحديث عن العمران المدني للقاهرة التي أصبحت المركز الثقّافي والسّياسي للعالم الإسلامي في وقته، وفي هذا الإطار عرّف المقريزي تعريفا مفصّلا بكلّ ما يتّصل بمسقط رأسه القاهرة، فلم يترك أثرا أو مؤسّسة إلاّ وصفه بدقّة متناهية وحكى بإسهاب تاريخ بنائه وما طرأ عليه من تغييرات، كما روى سير حياة الأمراء والكبراء الذي باشروا بناءه أو أقاموا فيه، ودوّن كذلك الأحداث المهمّة التي اقترنت بهذه المنشآت والتّقاليد والعادات والرّسوم المتعلّقة بها، حتى أنّه «لا توجد - كما يقول كاترمير Quatremere - مدينة شرقية يمكن أن تفخر بمؤلّف يبلغ مرتبة «الخطط» من حيث الاكتمال والطّرافة كما هو الحال مع القاهرة» (١).
فالكتاب كتاب مؤسّس في التاريخ العمراني وأوّل كتاب متخصّص في تاريخ مدينة، لا يوجد كتاب أقدم منه، فكتاب «تاريخ فلورنسه» وهو أوّل كتاب في تاريخ المدن في أوروبا، كتب سنة ١٤٨٠ م أي بعد وفاة المقريزي بنحو أربعين عاما.
[كتب الخطط قبل المقريزي]
ذكر المقريزي في مقدّمته لكتاب «المواعظ والاعتبار» أسماء أهمّ المؤلّفين الذين ألّفوا قبله في موضوع الخطط المصرية والذين اعتمد عليهم في جمع المادّة التاريخية والطّبوغرافيّة لكتابه. ورغم أنّ المقريزي يقول:«إنّ أوّل من رتّب خطط مصر وآثارها، وذكر أسبابها في ديوان جمعه أبو عمر محمد بن يوسف الكندي»(٢) المتوفى سنة ٣٥٠ هـ/ ٩٦١ م (٣) فإنّ أبا القاسم عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن عبد الحكم المتوفى قبل الكندي بنحو مائة عام في سنة ٢٥٧ هـ/ ٨٧٠ م (٤) أفرد في كتابه
(١) Quatremere، E.، Journal des Savants، ١٨٥٩، p. ٣٢٦.؛ كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافي ٤٨٢؛ وانظر كذلك مقال ناصر الرباط: «المدينة والتاريخ والسلطة: المقريزي وكتابه المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار»، حوليات إسلامية ٣٥ (٢٠٠١)، ٧٧ - ١٠٠. (٢) المقريزي: المواعظ والاعتبار فيما يلي ٩. (٣) راجع عن الكندي، محمد عبد اللّه عنان: مصر الإسلامية ٣٢ - ٣٤، Rosenthal، F.، EL.، art.al- Kindi? v، p. ١٢٤. (٤) راجع عنه Rosenthal، F.، El.، art.Ibnc? Abd al-Hakam lll، p. ٦٩٦ و «دراسات عن ابن عبد الحكم» للفيف من الأساتذة، القاهرة ١٩٧٥.