وحقيقة «مذهب الأشعري»﵀ أنّه سلك طريقا بين النّفي الذي هو مذهب الاعتزال، وبين الإثبات الذي هو مذهب أهل التّجسيم، وناظر على قوله هذا، واحتجّ لمذهبه. فمال إليه جماعة، وعوّلوا على رأيه: منهم القاضي أبو بكر محمد ابن الطّيّب الباقلاّني المالكي، وأبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، والشّيخ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن مهران الإسفراييني، والشّيخ أبو إسحاق إبراهيم بن عليّ بن يوسف الشّيرازي، والشّيخ أبو حامد محمد ابن محمد بن أحمد الغزالي، وأبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشّهرستاني، والإمام فخر الدّين محمد بن عمر بن الحسين الرّازي، وغيرهم ممّن يطول ذكره.
ونصروا مذهبه، وناظروا عليه، وجادلوا فيه، واستدلّوا له في مصنّفات لا تكاد تحصر. فانتشر «مذهب أبي الحسن الأشعري» في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاث مائة، وانتقل منه إلى الشّام.
فلمّا ملك السّلطان الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف بن أيّوب ديار مصر، كان هو وقاضيه صدر الدّين عبد الملك بن عيسى بن درباس الماراني على هذا المذهب، قد نشأ عليه منذ كانا في خدمة السّلطان الملك العادل نور الدّين محمود بن زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدّين في صباه «عقيدة» ألّفها له قطب الدّين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النّيسابوري، وصار يحفّظها صغار أولاده، فلذلك عقدوا الخناصر وشدّوا البنان على مذهب الأشعري، وحملوا في أيّام دولتهم كافّة النّاس على التزامه. فتمادى الحال على ذلك جميع أيّام الملوك من بني أيّوب، ثم في أيّام مواليهم الملوك من الأتراك.
واتّفق مع ذلك توجّه أبي عبد اللّه محمد بن تومرت (١)، أحد رجالات المغرب، إلى العراق، وأخذ عن أبي حامد الغزالي مذهب الأشعري. فلمّا عاد إلى بلاد المغرب، وقام في المصامدة
= أبو منصور الماتريدي، مؤسّسا علم الكلام السّنّي. ونجح مذهب الأشعري في الانتشار والإحلال محلّ آراء المعتزلة التي أخذت في الانزواء في القرنين الخامس والسادس للهجرة ووجد مكانه في المدارس المشهورة بفضل مساندة السّلاجقة السّنّيين الذين أرادوا ضرب مذاهب الفاطميين الشّيعة في مصر والشّام. (راجع، Richard، J.Maccarthy، The Theology of al-Ash c ari، Beyroth ١٩٥٣; Makdisi، G.، «Ash c ari and the Ash c arites in Islamic Religious History»، SI XVII (١٩٦٢)، pp. ٣٧ - ٨٠، XVIII (١٩٦٣)، pp. ١٩ - ٣٩; Montgomery Watt، W.، El ٢ art.al-Ash c ari & al-Ash c ariyya I، L ٢ pp. ٧١٥ - ١٦، ٧١٧ - ١٨؛ جلال محمد موسى: نشأة الأشعرية وتطورها، بيروت - دار الكتاب اللبناني ١٩٧٥؛ أحمد محمود صبحي: الأشاعرة، الإسكندرية - منشأة المعارف ١٩٧٨). (١) الإمام أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه بن تومرت، مهدي الموحّدين، بدأ رحلته إلى الشّرق نحو سنة ٥٠١ هـ/ ١١٠٧ م وعاد إلى المغرب بعد أربعة عشر عاما حيث بايعه الموحّدون سنة ٥١٤ هـ أو ٥١٥ هـ، وتوفي سنة ٥٢٤ هـ/ ١١٣٠ م. (راجع، ابن القطان: نظم الجمان ٦١ - ١٤٢؛ -