فإذا اقتضت آراء السّلطان تسفير أحد منهم في مهمّ، يحتاج المملوك إلى استدعائه من خدمة الأمير الدّوادار، فإذا التمس منّي أنّي أخبره بالمعنى الذى توجّه فيه البريدي لا أقدر على إعلامه بذلك ولا آمن إن كتمته، وانصرف.
فلمّا كان من الغد، وطلع الأمراء إلى الخدمة على العادة، قال السّلطان للأمير يونس الدّوادار: أرسل البريديّة كلّهم إلى كاتب السّرّ ليمشوا ويركبوا معه. فلم يجد بدّا من إرسالهم، وحصل عنده من إرسالهم المقيم المقصد (a).
فصار البريديّة يركبون نوبا في خدمة أوحد الدّين، ويتصرّف في أمور الدّولة وحده مع سلطانه. فانفرد بالكلمة، وخضع له الخاصّ والعامّ؛ إلاّ أنّه نغّص عليه في نفسه، ومرض مرضا طويلا سقطت معه شهوة الطّعام، بحيث أنّه لم يكن يشتهي شيئا من الغذاء، وتنوّع له المآكل بين يديه لكي تميل نفسه إلى شيء منها، ومتى تناول غذاء تقيّأه في الحال. وما زال على ذلك إلى أن مات عن سبع وثلاثين سنة، في يوم السبت ثاني ذي الحجّة سنة ستّ وثمانين وسبع مائة، ودفن خارج باب النّصر (١)، فلم يتأخّر أحد من الأمراء والأعيان عن جنازته.
وكان حسن السّياسة، رضيّ الخلق، عاقلا، كثير السّكون، جيّد السّيرة، جميل الصّورة، حشم (b) الهيئة، عارفا بأمر دنياه، محبّا للمداراة، صاحب باطن، قليل العلم، ﵀.
ربع الزّيتي
هذا الرّبع كان بجوار قنطرة الحاجب التي على الخليج النّاصريّ (٢)، وكان يشتمل على عدّة مساكن ينزلها أهل الخلاعة للقصف، فإنّه كان يشرف من جهاته الأربع على رياض وبساتين.
ففي شرقيه غيط الزّيتي وقد خرب وموضعه اليوم بركة ماء. وفي غربيه غيط الحاجب بيبرس - وأدركته عامرا، وهو اليوم مزارع بعد ما كان له باب كبير بجانبه حوض ماء للسّبيل، وعليه سياج من طين دائر به - ومن قبلي هذا الرّبع الخليج وقنطرة الحاجب والجنينة التي بأرض الطّبّالة، ومن بحرية بساتين تتّصل بالبعل وكوم الرّيش.
(a) بولاق: المقعد. (b) بولاق: حسن. (١) أضاف ابن قاضي شهبة: بتربة جده فخر الدّين بن التركماني (تاريخ ١٤٦: ١). (٢) فيما يلي ٥٠٥.