إلاّ وسرجه كما ذكرنا، وبطل السّرج المسمّط. فلمّا كانت الحوادث بعد سنة ستّ وثمان مائة، غلب على النّاس الفقر وكثرت الفتن، فقلّت سروج الذّهب والفضّة، وبقي منها إلى اليوم بقايا يركب بها أعيان الأمراء وأماثل المماليك.
سوق الجوخيّين
هذا السّوق يلي سوق اللّجميين، وهو معدّ لبيع الجوخ المجلوب من بلاد الفرنج لعمل المقاعد والسّتائر وثياب السّروج وغواشيها. وأدركت النّاس وقلمّا تجد فيهم من يلبس الجوخ، وإنّما يكون من جملة ثياب الأكابر جوخه (a) لا تلبس إلاّ في يوم المطر، وإنّما يلبس الجوخ من يرد من بلاد المغرب، والفرنج وأهل الإسكندرية وبعض عوامّ مصر، فأمّا الرّؤساء والأكابر والأعيان فلا يكاد يوجد فيهم من يلبسه إلاّ في وقت المطر. فإذا ارتفع المطر نزع الجوخة (a).
وأخبرني القاضي الرّئيس تاج الدّين أبو الفداء إسماعيل بن أحمد بن عبد الوهّاب بن الخطبا المخزومي، خال أمّي ﵀(١)، قال: كنت أنوب في حسبة القاهرة عن القاضي ضياء الدّين المحتسب، فدخلت عليه يوما وأنا لابس جوخة لها وجه صوف مربّع، فقال لي: وكيف ترضى أن تلبس الجوخ؟ وهل الجوخ إلاّ لأجل البغلة؟ ثم أقسم عليّ أن أخلعها. وما زال بي حتى عرّفته أنّي اشتريتها من بعض تجّار قيساريّة الفاضل، فاستدعاه في الحال ودفعها إليه، وأمره بإحضار ثمنها، ثم قال لي: لا تعد إلى لبس الجوخ استهجانا له.
فلمّا كانت هذه الحوادث، وغلت الملابس، دعت الضّرورة أهل مصر إلى ترك أشياء ممّا كانوا فيه من الرّفه (b)، وصار معظم النّاس يلبسون الجوخ، فتجد الأمير والوزير والقاضي، ومن دونهم ممّن ذكرنا، لباسهم الجوخ.
ولقد كان الملك النّاصر فرج ينزل أحيانا إلى الإسطبل وعليه قمجون من جوخ، وهو ثوب قصير الكمّين والبدن يخاط من الجوخ بغير بطانة من تحته ولا غشاء من فوقه، فتداول النّاس لبسه، واجتلب الفرنج منه شيئا كثيرا لا توصف كثرته. ومحلّ بيعه بهذا السّوق.
(a) بولاق: جوخ، الجوخ. (b) بولاق: الترفه. (١) انظر عنه فيما تقدم ١٦٠.