وممّا كان يعمل بمصر عيد الشّهيد، وكان من أنزه فرج أهل (a) مصر، وهو اليوم الثامن من بشنس - أحد شهور القبط -/، ويزعمون أنّ النّيل بمصر لا يزيد في كلّ سنة حتى يلقي النّصارى فيه تابوتا من خشب، فيه أصبع من أصابع كبرائهم (b)، ويكون ذلك اليوم عيدا ترحل إليه النّصارى من جميع القرى، ويركبون فيه الخيل ويلعبون عليها.
ويخرج كافّة (c) أهل القاهرة ومصر على اختلاف طبقاتهم، وينصبون الخيم الكبيرة (d) على شطوط النّيل وفي الجزائر، ولا يبقى مغنّ ولا مغنّية ولا صاحب لهو ولا ربّ ملعوب ولا بغيّ ولا مخنّث ولا ماجن ولا خليع ولا فاتك ولا فاسق، إلاّ ويخرج لهذا العيد. فيجتمع عالم عظيم (e) لا يحصيهم إلاّ خالقهم، وتصرف أموال لا تحصر (f)، ويتجاهر الناس من القبح (g) بما لا يحتمل من المعاصي والفسوق، وتثور فتن، ويقتل أناس، ويباع من الخمر خاصّة في ذلك اليوم بما ينيف على مائة ألف درهم فضّة عنها خمسة آلاف دينار ذهبا، وباع نصرانيّ في يوم واحد باثني عشر ألف درهم فضّة من الخمر. وكان اجتماع النّاس لعيد الشّهيد دائما بناحية شبرا من ضواحي القاهرة، وكان اعتماد فلاّحي شبرا دائما في وفاء الخراج على ما يبيعونه من الخمر في عيد الشّهيد.
ولم يزل الحال على ما ذكر من الاجتماع كذلك إلى أن كانت سنة اثنتين وسبع مائة - والسّلطان يومئذ بديار مصر الملك النّاصر محمد بن قلاوون، والقائم بتدبير الدولة الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وهو يومئذ أستادّار السّلطان، والأمير سيف الدين سلار نائب السّلطنة بديار مصر - فقام الأمير بيبرس في إبطال ذلك قياما عظيما، وكان إليه أمور ديار مصر هو والأمير سلار، والنّاصر تحت حجرهما لا يقدر على شبع بطنه إلاّ من تحت أيديهما. فتقدّم أمر الأمير بيبرس ألاّ يرمى أصبع في النّيل، ولا يعمل له عيد، وندب الحجّاب ووالي القاهرة لمنع النّاس من الاجتماع بشبرا على عادتهم. وخرج البريد إلى سائر أعمال مصر ومعهم الكتب إلى الولاة بإجهار النّداء وإعلانه في الأقاليم بألاّ يخرج أحد من النّصارى، ولا يحضر لعمل عيد الشّهيد.
فشقّ ذلك على أقباط مصر كلّهم، من أظهر الإسلام منهم وزعم أنّه مسلم، ومن هو باق على
(a) ساقطة من الأصل وبولاق ومثبتة من مسودة الخطط. (b) الأصل: سلفهم الموتى، بولاق: أسلافهم الموتى، والمثبت من مسودة الخطط. (c) الأصل وبولاق: عامة. (d) من مسودة الخطط. (e) ساقطة من الأصل. (f) الأصل وبولاق: لا تنحصر. (g) الأصل: من هنا، بولاق: هناك.