كان السّبب في عمل هذا الجسر أنّ ماء النّيل قويت زيادته في سنة ثلاث وعشرين وسبع مائة حتى أخرق من ناحية بستان الخشّاب (١)، ودخل الماء إلى جهة بولاق، وفاض إلى باب اللّوق حتى اتّصل بباب البحر وبساتين الخور، فهدمت عدّة دور كانت مطلّة على البحر وكثير من بيوت الحكورة، وامتدّ الماء إلى ناحية منية السّيرج (٢). فقام الفخر ناظر الجيش بهذا الأمر، وعرّف السّلطان الملك النّاصر محمد بن قلاوون أنّه متى غفل دخل الماء إلى القاهرة وغرّق أهلها ومساكنها. فركب السّلطان إلى البحر ومعه الأمراء، فرأى ما هاله، وفكّر فيما يدفع ضرر النّيل عن القاهرة، فاقتضى رأيه عمل جسر عند نزول الماء، وانصرف.
فقويت الزّيادة، وفاض الماء على منشأة المهراني ومنشأة الكتبة، وغرّق بساتين بولاق والجزيرة حتى صار ما بين ذلك ملقة واحدة. وركب النّاس المراكب للفرجة، ومرّوا بها تحت الأشجار، وصاروا يتناولون الثّمار بأيديهم وهم في المراكب. فتقدّم السّلطان لمتولّي القاهرة ومتولّي مصر ببثّ الأعوان في القاهرة ومصر لردّ الحمير والجمال التي تنقل التّراب إلى الكيمان، وألزمهم بإلقاء التّراب بناحية بولاق. ونودي في القاهرة ومصر:«من كان عنده تراب، فليرمه بناحية بولاق وفي الأماكن التي قد علا عليها الماء».
فاهتمّ النّاس من جهة زيادة الماء اهتماما كبيرا، خوفا أن يخرق الماء ويدخل إلى القاهرة. وألزم أرباب الأملاك التي ببولاق والخور والمناشئ أن يقف كلّ واحد على إصلاح مكانه، ويحترس من عبور الماء على غفلة. فتطلّب كلّ أحد من النّاس الفعلة من غوغاء النّاس لنقل التّراب، حتى عدمت الحرافيش (٣)، ولم تكد (a) توجد لكثرة ما أخذهم النّاس لنقل التّراب ورميه. وتضرّرت الآدرّ القريبة من البحر بنزرها، وغرقت الأقصاب والقلقاس والنّيلة وسائر الدّواليب (b) التي بأعمال مصر.
(a) بولاق: تكن. (b) بولاق: الدواليت. (١) حاشية بخطّ المؤلّف: «بستان الخشّاب من جملة ميدان السّلطان الذي كان على النّيل». (٢) يدلّ على موضع هذا الجسر الآن شارع التّرعة البولاقية الواصل بين بولاق ومنية السّيرج. (أبو المحاسن: النجوم الزاهرة ١٩٢: ٩ هـ ١). (٣) انظر عن الحرافيش، فيما تقدم ٩١ هـ ٢.