للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يعلم به أهل مصر، فاتّهمه الناس بقتل أتريب وحاربوه تسع سنين. فلمّا مضى من حربهم خمس سنين مضى بهم حتى أوقفهم على قبر أتريب، فحفروه فلم يجدوا به شيئا، وقد نقلته الشّياطين إلى موضع أبي الهول، ودفنته هناك بجانب قبر أبيه وجدّه بيصر.

فازدادوا له تهمة، وعادوا إلى مدينة منف وتحاربوا، فأتاهم إبليس فدلّهم على قبر أتريب حيث نقله، فأخرجوه من قبره ووضعوه على سرير، فتكلّم لهم الشّيطان على لسانه حتى افتتنوا به وسجدوا له، وعبدوه فيما عبدوا من الأصنام.

وقتلوا صا ودفنوه على شاطئ النّيل، فكان النّيل إذا زاد لا يعلو قبره فافتتن به طائفة وقالوا: قد قتل صا ظلما، وصاروا يسجدون لقبره كما يسجد أولئك لأتريب. فعمد آخرون إلى حجر فنحتوه على صورة أشموم، وكان يقال له أبو الهول، ونصبوه بين الهرمين وجعلوا يسجدون له، فصار أهل مصر ثلاث فرق.

ولم تزل الصّابئة تعظّم أبا الهول، وتقرّب له الدّيكة البيض، وتبخّره بالصّندروس.

ذكر الجبال (١)

اعلم أنّ أرض مصر بأسرها محصورة بين جبلين آخذين من الجنوب إلى الشّمال، قليلي الارتفاع، وأحدهما أعظم من الآخر، والأعظم منهما هو الجبل الشّرقيّ المعروف بجبل لوقا، والغربيّ جبل صغير وبعضه غير متّصل ببعض، والمسافة بينهما تضيق في بعض المواضع وتتّسع في بعضها، وأوسع ما يكون بأسفل أرض مصر.

وهذان الجبلان أقرعان لا ينبت فيهما نبات، كما يكون في جبال البلدان الأخر؛ وعلّة ذلك أنّهما بورقيان مالحان، لأنّ قوّة طين مصر تجذب منهما الرّطوبات الموافقة في التكوين، ولأنّ قوّة الحرارة تحلّل منهما الجوهر اللّطيف العذب، وكذلك مياه الآبار منهما مالحة.

وهذان الجبلان يجفّفان ما يدفن فيهما، فإنّ أرض مصر بالطّبع قليلة الأمطار.

وجبل لوقا في مشرق أرض مصر يعوق عنها ريح الصّبا، فعدمت مصر هذا الرّيح، ويعوق أيضا إشراق الشّمس على أرض مصر إذا كانت على الأفق.


(١) انظر كذلك القلقشندي: صبح الأعشى ٣٠٥: ٣ - ٣٠٧.