للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فلم يسع ابن حديد إلاّ أن قلعه من مكانه، وبعث به وفي نفسه حزازة من أخذه منه، وخدم البدوية، وخدم جميع من يلوذ بها، حتى قالت: هذا الرّجل أخجلنا بكثرة هداياه وتحفه، ولم يكلّفنا قطّ أمرا نقدر عليه عند الخليفة مولانا.

فلمّا بلغه ذلك عنها قال: ما لي حاجة، بعد الدّعاء للّه تعالى بحفظ مكانها وطول حياتها، غير رد الجرن الذي أخذ من داري التي بنيتها في أيامهم من نعمهم إلى مكانه.

فلما سمعت هذا عنه تعجّبت منه، وأمرت بردّ الجرن إليه. فقيل له: قد وصلت إلى حدّ أن خيّرتك البدوية في جميع المطالب، فنزلت همّتك إلى قطعة حجر!

فقال: أنا أعرف بنفسي، ما كان لها أمل سوى ألاّ تغلب في أخذ ذلك الجرن من مكانه، وقد بلّغها اللّه أملها.

وبقيت البدويّة متعلّقة الخاطر بابن عمّ لها ربّيت معه يعرف بابن ميّاح، فكتبت إليه وهي بقصر الخليفة الآمر:

[الرمل]

يا ابن ميّاح إليك المشتكى … مالك من بعدكم قد ملكا

كنت في حيي مرا مطلقا … نائلا ما شئت منكم مدركا

فأنا الآن بقصر موصد … لا أرى إلاّ حبيسا ممسكا

كم تثنّينا بأغصان اللّوا … حيث لا نخشى علينا دركا

وتلاعبنا برملات الحمى … حيثما شاء طليق سلكا

فأجابها:

[الرمل]

بنت عمّي والتي غذّيتها … بالهوى حتى علا واحتنكا

بحت بالشّكوى وعندي ضعفها … لو غدا ينفع منها المشتكى

مالك الأمر إليه يشتكى … هالك وهو الذي قد هلكا

كأن داود غدا في عصرنا … مبديا بالتيه ما قد ملكا

فبلغت الآمر، فقال: لولا أنّه أساء الأدب في البيت الرّابع لرددتها إلى حيّه وزوّجتها به.

قال القرطبي (a): وللنّاس في طلب ابن ميّاح واختفائه أخبار تطول.


(a) بولاق: القرطبي.