ولمّا أخذ محمد بن طغج دار خديجة كان يتردّد إليها حتى عملت. فلمّا ابتدأوا بإنشاء المراكب فيها، صاحت به امرأة، فقال: خذوها. فساروا بها إلى داره، فأحضرها مساء، واستخبرها عن أمرها. فقالت: ابعث معي من يحمل المال. فأرسل معها جماعة إلى دار خديجة هذه، فدلّتهم على مكان استخرجوا منه عينا وورقا وحليّا وثيابا وعدّة ذخائر لم ير مثلها، وصاروا بها إلى محمد بن طغج. فطلب المرأة ليكافئها على ما كان منها، فلم توجد. فكان هذا أوّل مال وصل إلى محمد بن طغج بمصر.
قال: واستدعى محمد بن طغج الإخشيد صالح بن نافع وقال له: كان في نفسي إذا ملكت مصر أن أجعل صناعة العمارة في دار ابنة الفتح، وأجعل موضع الصّناعة من الجزيرة بستانا أسمّيه «المختار». فاركب وخطّ لي بستانا ودارا، وقدّر لي النّفقة عليها. فركب صالح بجماعة، وخطّوا بستانا في دار للغلمان ودار للنّوبة وخزائن للكسوة وخزائن للطّعام، وصوّروه وأتوا به، فاستحسنه وقال: كم قدّرتم النّفقة؟ قالوا: ثلاثين ألف دينار. فاستكثرها، فلم يزالوا يضعون من التقدير حتى صار خمسة آلاف دينار. فأذن في عمله. ولمّا شرعوا فيه ألزمهم المال من عندهم، فقسّط على جماعة، وفرغ من بنائه. فاتّخذه الإخشيد متنزّها له، وصار يفاخر به أهل العراق (١).
وكان نقل الصّناعة من الجزيرة إلى ساحل النّيل بمصر في شعبان سنة خمس وعشرين وثلاث مائة. فلم يزل البستان المختار متنزّها إلى أن زالت الدّولة الإخشيدية والكافورية، وقدمت الدّولة الفاطميّة من بلاد المغرب إلى مصر. فكان يتنزّه فيه المعزّ لدين اللّه معدّ وابنه العزيز باللّه نزار، وصارت الجزيرة مدينة عامرة بالنّاس لها وال وقاض، وكان يقال «القاهرة ومصر والجزيرة».
فلمّا كانت أيّام استيلاء الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي، وحجره على الخلفاء، أنشأ في بحريّ الجزيرة مكانا نزها سمّاه «الرّوضة»، وتردّد إليها تردّدا كثيرا، فكان يسير في العشاريات الموكبيات من دار الملك - التي كانت سكنه بمصر - إلى الرّوضة، ومن حينئذ صارت الجزيرة كلّها تعرف ب «الرّوضة». فلمّا قتل الأفضل بن أمير الجيوش، واستبدّ الخليفة الآمر بأحكام اللّه أبو عليّ منصور بن المستعلي باللّه، أنشأ بجوار البستان المختار من جزيرة الرّوضة، مكانا لمحبوبته العالية البدويّة سمّاه «الهودج».
(١) ابن سعيد: المغرب في حلى المغرب ١٦٠ - ١٦١ (عن ابن زولاق)، وانظر كذلك وصف الإدريسي لجزيرة الروضة في كتابه نزهة المشتاق في اختراق الآفاق ٣٢٥: ٣.