وأنتم صاغرون، وإمّا أن جاهدناكم بالصّبر والقتال حتى يحكم اللّه بيننا وبينكم، وهو خير الحاكمين».
فلمّا جاءت رسل المقوقس إليه قال: كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: رأينا قوما الموت أحبّ إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحبّ إلى أحدهم من الرّفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، إنّما جلوسهم على التّراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السّيّد منهم من العبد، وإذا حضرت الصّلاة لم يتخلّف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم. فقال عند ذلك المقوقس: والذي يحلف به، لو أنّ هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، وما يقوى على قتال هؤلاء أحد، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النّيل، لم يجيبوا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض، وقووا/ على الخروج من موضعهم. فردّ إليهم المقوقس رسله: ابعثوا إلينا رسلا منكم نعاملهم، ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه أن يكون فيه صلاح لنا ولكم.
فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر، أحدهم عبادة بن الصّامت، وكان طوله عشرة أشبار، وأمره أن يكون متكلّم القوم، ولا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلاّ إحدى هذه الثّلاث خصال، فإنّ أمير المؤمنين قد تقدّم إليّ في ذلك، وأمرني ألاّ أقبل شيئا سوى خصلة من هذه الثلاث خصال.
وكان عبادة أسود، فلمّا ركبوا السّفن إلى المقوقس ودخلوا عليه، تقدّم عبادة، فهابه المقوقس لسواده، وقال: نحّوا عنّي هذا الأسود، وقدّموا غيره يكلّمني. فقالوا جميعا: إنّ هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيّدنا وخيرنا والمقدّم علينا، وإنّما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره، وأمرنا ألاّ نخالف رأيه وقوله؛ قال: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنّما ينبغي أن يكون هو دونكم؟ قالوا: كلاّ، إنّه وإن كان أسود كما ترى، فإنّه من أفضلنا موضعا وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيا، وليس ينكر السّواد فينا؛ فقال المقوقس لعبادة: تقدّم يا أسود وكلّمني برفق، فإنّي أهاب سوادك، وإن اشتدّ كلامك عليّ، ازددت لك هيبة.
فتقدّم عليه عبادة فقال: قد سمعت مقالتك، وإنّ فيمن خلّفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشدّ سوادا منّي وأفظع منظرا، ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم منك لي، وأنا قد ولّيت وأدبر شبابي، وإنّي مع ذلك - بحمد اللّه - ما أهاب مائة رجل من عدوّي لو استقبلوني جميعا، وكذلك أصحابي؛ وذلك إنّما رغبتنا وهمّتنا الجهاد في اللّه واتّباع رضوانه، وليس غزونا عدوّا ممن