وخرج إليها الملك ووزراؤه - وكان هذا كلّه في سبعين يوما - فلمّا نظر إليها الملك قال لوزرائه أولئك: هذا عمل ألف يوم، فسمّيت ألفيوم، وأقامت تزرع كما تزرع غوائط مصر.
قال: وقد سمعت في استخراج الفيّوم غير هذا، أنّ يوسف ﵇ ملك مصر وهو ابن ثلاثين، فأقام يدبّرها أربعين سنة، فقال أهل مصر: قد كبر يوسف واختلّ (a) رأيه فعزلوه، وقالوا: اختر لنفسك من الموات أرضا تقطعها لنفسك وتصلحها وتعمل رأيك فيها، فإنّ رأينا من رأيك وحسن تدبيرك ما نعلم أنّك في زيادة من عقلك، رددناك إلى ملكك؛ فاعترض البرّيّة في نواحي مصر، فاختار موضع الفيّوم، فأعطيها، فشقّ إليها خليج/ المنهى من النّيل حتى أدخله الفيّوم كلّها، وفرغ من حفر ذلك كلّه في سنة.
قال يزيد بن أبي حبيب: وبلغنا أنّه إنّما عمل ذلك بالوحي، وقوي على ذلك بكثرة الفعلة والأعوان، فنظروا فإذا الذي أحياه يوسف من الفيّوم لا يعلمون له بمصر كلّها مثلا ولا نظيرا، فقالوا: ما كان يوسف قطّ أفضل عقلا ولا رأيا ولا تدبيرا منه اليوم، فردّوا إليه الملك، فأقام ستّين سنة أخرى تمام مائة سنة، حتّى مات وهو ابن ثلاثين ومائة سنة.
قال: ثم بلغ يوسف قول وزراء الملك وأنّه إنّما كان ذلك منهم (b) على المحنة منهم له، فقال للملك:
عندي من الحكمة والتّدبير غير ما رأيت؛ فقال له الملك: وما ذاك؟ قال: أنزل الفيّوم من كلّ كورة من كور مصر أهل بيت، وآمر أهل كلّ بيت أن يبنوا لأنفسهم قرية - وكانت قرى الفيّوم على عدد كور مصر - فإذا فرغوا من بناء قراهم، صيّرت لكلّ قرية من الماء بقدر ما أصيّر لها من الأرض، لا يكون في ذلك زيادة ولا نقص، وأصيّر لكلّ قرية شربا في زمان لا ينالهم الماء إلاّ فيه، وأصيّر مطاطئا للمرتفع ومرتفعا للمطاطئ بأوقات من السّاعات في اللّيل والنّهار، وأصيّر لها قبضات، فلا يقصر بأحد دون حقّه، ولا يزاد (c) فوق قدره؛ فقال له فرعون: هذا من ملكوت السّماء؟ قال: نعم.
فبدأ يوسف فأمر ببنيان القرى وحدّد لها حدودا، وكانت أوّل قرية عمّرت بالفيّوم قرية يقال لها شانة (d)، وهي القرية التي كانت تنزلها بنت فرعون. ثم أمر بحفر الخليج وبنيان القناطر، فلمّا فرغوا من ذلك استقبل وزن الأرض ووزن الماء. ومن يومئذ حدثت الهندسة، ولم يكن الناس يعرفونها قبل ذلك. وكان أوّل من قاس النّيل بمصر يوسف، ووضع مقياسا بمنف (١).
(a) بولاق: واختلفت. (b) ساقط من بولاق. (c) بولاق: يزداد. (d) بولاق: سانه. (١) ابن عبد الحكم: فتوح مصر ١٤ - ١٦.