للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفي ذلك الزّمان استنبطت الفيّوم، كان سبب ذلك أنّ يوسف لمّا ملك مصر، وعظمت منزلته من فرعون، وجاوزت سنّة مائة سنة، قال وزراء الملك له: إنّ يوسف قلّ علمه، وتغيّر عقله، ونفدت حكمته. فعنّفهم فرعون، وردّ عليهم مقالتهم، وأساء اللّفظ لهم، فكفّوا.

ثم عاودوه بذلك القول بعد سنين، فقال لهم: هلمّوا ما شئتم، من أي شيء أختبره به؟ وكان بلد الفيّوم يومئذ يدعى الجوبة، وإنّما كانت لمصالة ماء الصّعيد وفضوله، فاجتمع رأيهم على أن تكون هي المحنة التي يمتحنون بها يوسف، فقالوا لفرعون: سل يوسف أن يصرف ماء الجوبة عنها ويخرجه منها، فتزداد بلدا إلى بلدك، وخراجا إلى خراجك.

فدعا يوسف فقال: تعلم مكان ابنتي فلانة منّي، وقد رأيت إذا بلغت أن أطلب لها بلدا، وإنّي لم أصب لها إلاّ الجوبة - وذلك أنّه بلد بعيد قريب، لا يؤتى من وجه من الوجوه إلاّ من غابة أو صحراء، وكذلك ليست هي تؤتى من ناحية من النّواحي من مصر إلاّ من مفازة وصحراء، فالفيّوم وسط مصر كمثل مصر في وسط البلاد، لأنّ مصر لا تؤتى من ناحية من النّواحي إلاّ من صحراء أو مفازة - قال: وقد أقطعتها إيّاها، فلا تتركن وجها ولا نظرا إلاّ بلغته. فقال يوسف: نعم أيّها الملك، متى أردت ذلك فابعث إليّ، فإنّي إن شاء اللّه فاعل ذلك؛ قال: إنّ أحبّه إليّ وأوفقه أعجله.

فأوحي إلى يوسف أن تحفر ثلاثة خلج: خليجا من أعلى الصّعيد من موضع كذا إلى موضع كذا، وخليجا شرقيّا من موضع كذا إلى موضع كذا، وخليجا غربيّا من موضع كذا إلى موضع كذا. فوضع يوسف العمّال، فحفر خليج المنهى من أعلى أشمون إلى اللاّهون، وأمر البنّائين أن يحفروا اللاّهون، وحفر خليج الفيّوم وهو الخليج الشّرقي، وحفر خليجا بقرية يقال لها تنهمت (a) من قرى الفيّوم وهو الخليج الغربي. فخرج ماؤها من الخليج الشّرقي فصبّ في النّيل، وخرج من الخليج الغربي فصبّ في صحراء تنهمت إلى الغرب، فلم يبق في الجوبة ماء. ثم أدخلها الفعلة، فقطع ما كان فيها من القصب والطّرفاء، وأخرجه منها. وكان ذلك ابتداء جري النّيل، وقد صارت أرض الجوبة أرضا (b) نقيّة برية، وارتفع ماء النّيل فدخل في رأس المنهى، فجرى فيه حتى انتهى إلى اللاّهون، فقطعه إلى الفيّوم فدخل خليجها فسقاها، فصارت لجّة من النّيل. (١)


(a) بولاق: نبهمت.
(b) ساقطة من بولاق.
(١) النص التالي عن ابن عبد الحكم.