فسألها الرّاعي عن ذلك، فقالت: إنّ دوابّ البحر التي تنزع بنيانكم؛ فقال: فهل من حيلة؟ قالت: نعم، تعملون توابيت من زجاج كثيف بأغطية، وتجعلون فيها أقواما يحسنون التّصوير، ويكون معهم صحف وأنقاش وزاد يكفيهم أيّاما، وتحمل التّوابيت في المراكب بعدما تشدّ بالحبال، فإذا توسّطوا الماء أمروا المصوّرين أن يصوّروا جميع ما يمرّ بهم، ثم ترفع تلك التّوابيت، فإذا وقفتم على تلك الصّور فاعملوا لها أشباها من صفر أو حجارة أو رصاص، وانصبوها قدّام البنيان الذي تبنونه من جانب البحر، فإنّ تلك الدّوابّ إذا خرجت ورأت صورها هربت ولم تعد؛ فعرّف الرّاعي صاحبه ذلك ففعله، وتمّ البنيان وبنى المدينة.
وقال قوم: إنّ صاحب البناء والغنم هو جيرون المؤتفكي (a)، كان قصدهم قبل الوليد، وإنّما أتاهم الوليد بعد حوريا (b) وقهرهم وملك مصر.
وذكروا أنّ الأموال التي كانت مع جيرون نفدت كلّها في تلك المدينة ولم تتمّ، فأمر الرّاعي أن يخبر الجارية فقالت: إنّ في المدينة التي خربت ملعبا مستديرا حوله سبعة عمد على رؤوسها تماثيل من صفر قيام، فقرّب لكلّ تمثال منها ثورا سمينا، ولطّخ العمود الذي تحته من دم الثّور وبخّره بشعر من ذنبه وشيء من نحاتة قرونه وأظلافه، وقل له: هذا قربانك فأطلق لي ما عندك، ثم قس من كلّ عمود إلى الجهة التي يتوجّه إليها وجه التّمثال مائة ذراع، واحفر عند امتلاء القمر واستقامة زحل، فإنّك تنتهي بعد خمسين ذراعا إلى بلاطة عظيمة، فلطّخها بمرارة الثّور وأقلها، فإنّك تنزل إلى سرب طوله خمسون ذراعا، في آخره خزانة مقفلة، ومفتاح القفل تحت عتبة الباب فخذه، ولطخ الباب ببقية المرارة ودم الثور، وبخّره بنحاتة قرونه وأظلافه وشعر ذنبه، وادخل فإنّه يستقبلك صنم في عنفه لوح من صفر مكتوب فيه جميع ما في الخزانة، فخذ ما شئت ولا تعترض ميّتا تجده ولا ما عليه؛ وكذلك كلّ عمود وتمثاله، فإنّك تجد مثل تلك الخزانة، وهذه نواويس سبعة من الملوك وكنوزهم.
فلمّا سمع ذلك سرّ به، وامتثله فوجد ما لا يدرك وصفه، ووجد من العجائب شيئا كثيرا، فتمّ بناء المدينة. وبلغ ذلك حوريا (b) فساءها، وكانت قد أرادت إتعابه وهلاكه بالحيلة.
ويقال إنّه وجد فيما وجد درجا من ذهب مختوما، فيه مكحله زبرجد فيها ذرور أخضر ومعها عرق أحمر، من اكتحل من ذلك الذّرور بالعرق وكان أشيب، عاد شابّا واسودّ شعره وأضاء
(a) ساقطة من بولاق، وعند ياقوت: جبير المؤتفكي. (b) بولاق: جورياق.