أمر أو قصدهم أحد، وجعل بحافتي بحر الملح منارا يعلم به أمر البحر. ويقال إنّه بنى أكثر مدينة منف وكلّ بنيان عظيم بالإسكندرية.
وكان لمّا ملك البلد بأسره جمع الحكماء ونظر في النّجوم، وكان بها حاذقا، فرأى أنّ مصر لابد أن تغرق من نيلها، وأنّها تخرب على يد رجل يأتي من ناحية الشّام، فجمع كلّ فاعل بمصر، وبنى مدينة في الواح الأقصى.
وقصده ملك الإفرنجة وملك منه مدينة منف، وقدم معه ألف مركب، وهدم أكثر الإسكندرية، ودخل إلى النّيل من رشيد حتى أخذ منف، وفرّ منه صا إلى المدائن الدّاخلة، وتحصّن بها من عدوّه، فامتنعت بالطّلّسمات أيّاما كثيرة، ثم كانت العاقبة له، وعاد عدوّه منهزما، ورجع إلى منف فتتبّع الكهنة، وقتل منهم كثيرا. وأقام ملكا سبعا وستين سنة، وعاش مائة وسبعين سنة (١).
وملك ابنه تدارس (a)، واستولى على الأحياز كلّها، وصفا له ملك مصر، وكان محنّكا (b) مجرّبا ذا أيد وقوّة ومعرفة بالأمور، فأظهر العدل، وأقام الهياكل وأهلها قياما حسنا، وبنى بيتا للزّهرة، وحفر خليج سخا. وحارب بعض عمالقة الشّام، ودخل إلى فلسطين، وقتل بها خلقا وسبى بعض أهلها إلى مصر، وغزا السّودان من الزّنج والحبشة، ووجّه في النّيل بثلاث مائة سفينة فلقى السّودان - وكانوا زهاء ألف ألف - فهزمهم وقتل أكثرهم، وأسر منهم خلقا كثيرا، وساق الفيلة والنّمور إلى مصر. وعمل على حدود بلده منارات زبر عليها اسمه ومسيره وظفره. وفي أيّامه بعث اللّه نبيّه صالحا إلى ثمود (٢).
ويقال إنّه هو الذي أنزل النّوبة حيث هي، وذلك أنّه لمّا أوغل في أرض الحبشة وقتل أمم السّودان، وجد فيهم أمّة تقرأ صحف آدم وشيث وإدريس، فمنّ عليها وأنزلها على نحو من شهر من أرض مصر، فسمّوا النّوبة، ومات بمنف (٣).
فملك بعده ابنه ماليق، وكان عاقلا كريما حسن الوجه (c) مجرّبا، مخالفا لأبيه وأهل مصر في عبادة الكواكب والبقر.
(a) بولاق: تدارس. (b) بولاق: محتكما. (c) بولاق: الصورة. (١) النويري: نهاية الأرب ٨٨: ١٥ - ٩٣. (٢) فيما تقدم ٣٧١. (٣) النويري: نهاية الأرب ٩٣: ١٥ - ٩٤، وانظر عن النوبة فيما يلي ٥١٧ - ٥٢٦.