في عدّة جهات، فصار بعض الجبي في الصّعيد، وبعضه في الشّرقيّة، وبعضه في الغربيّة، إتعابا للجندي وتكثيرا للكلفة. وأفردوا جوالي الذّمّة من الخاصّ، وفرّقوها في البلاد التي أقطعت للأمراء والأجناد، فإنّ النّصارى كانوا مجتمعين في ديوان واحد - كما ستقف عليه إن شاء اللّه تعالى - فصار نصارى كلّ بلد يدفعون جاليتهم إلى مقطع تلك الضّيعة. فاتّسع مجال النّصارى، وصاروا يتنقّلون في القرى ولا يدفعون من جزيتهم إلاّ ما يريدون، فقلّ متحصّل هذه بعد كثرته، وأفردوا ما بقي من جهات المكوس برسم الحوائجخاناه التي تصرف للسّماط، ليتناولوا ذلك ويوردوا منه ما شاءوا، ثم يتولّوا صرف ما يحصّل منه في جهات تستهلك بالأكل. وصارت جهات المكوس ممّا يتحدّث فيه الوزير وشادّ الدّواوين.
ثم نظر السّلطان فيما كان بيد الأميرين بيبرس الجاشنكيز وسلار نائب السّلطنة من البلاد، فأخذ ما كان باسم كلّ منهما وباسم حواشيه، ولم يدع من ذلك شيئا ممّا كانوا قد وقفوه حتى حلّه، وجعل الجميع إقطاعات، واعتدّ في سائر الإقطاعات بما كان يستهديه المقطع من فلاّحه، فحسب ذلك وأقامه من جملة عبر الإقطاع، وأبطل الهديّة، فلم يتهيّأ له الفراغ من ذلك إلى آخر السّنة.
فلمّا أهلّ المحرّم من سنة ستّ عشرة وسبع مائة، وقد نظمت الحسبانات على ثلث مغلّ سنة خمس عشرة، جلس السّلطان في الإيوان الذي استجدّه بقلعة الجبل (١)، وقد تقدّم لسائر نقباء الأجناد على لسان نقيب الجيش بالحضور بأجنادهم، وجعل للعرض في كلّ يوم أميرين من الأمراء المقدّمين بمضافيهما. فكان الأمير مقدّم الألف يقف ومعه مضافوه، وناظر الجيش يستدعيهم من تقدمة ذلك الأمير بأسمائهم على قدر منازلهم، فيقدّم نقيب الجيش الواحد من يد نقيبه إلى ما بين يديّ السّلطان، فإذا مثل بحضرته سأله السّلطان بنفسه من غير واسطة عن اسمه وأصله وجنسه ووقت حضوره إلى ديار مصر، ومع من قدم، وإلى من صار من الأمراء وغيرهم، وعن مشاهده التي حضرها في الغزو، وعمّا يعرفه من صناعة الحرب وغير ذلك من الاستقصاء.
فإذا انتهى استفهامه إيّاه ناوله بيده مثالا من غير تأمّل بحسب ما قسم اللّه له، فلم يمرّ به في مدّة العرض أحد إلاّ وقد عرفه، وأشار إلى الأمراء بذكر شيء من خبره.
هذا، وقد تقدّم إلى سائر الأمراء بأسرهم بأن يحضروا إلى الإيوان عند العرض، ولا يعارض أحد منهم السّلطان في شيء يفعله، فكانوا يحضرون وهم سكوت لا يتكلّم أحد منهم خوفا من مخالفة السّلطان لما يقوله. وأخذ السّلطان في مواربة الأمراء، فما أثنوا على أحد في مجلس