للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

العرض إلاّ وأعطاه السّلطان مثالا بإقطاع رديء. فلمّا علموا ذلك أمسكوا عن الكلام معه جملة.

وانفرد بالاستبداد بأموره دونهم، فما عرف منه أنّه قدم إليه أحد إلاّ وسأله: إن كان مملوكا عمّن أقدمه من التّجّار وسائر ما تقدّم، وإن كان شيخا فعن أصله وسنّه وكم مصافّ حضرها، حتى أتى على الجميع. وأفرد المشايخ العاجزين فلم يعطهم إقطاعات، وجعل لكلّ منهم مرتّبا يقوم به، فانتهى العرض في طول المحرّم، وتوفّر كثير من مثالات الأجناد فبلغ عدّة مائتي مثال.

ثم أخذ في عرض أطباق المماليك السّلطانية، ووفّر من جوامكهم كثيرا، وقطع عدّة رواتب من رواتبهم، وعوّضهم عن ذلك إقطاعات، وجعل جهة مكس قطيا (١) لضعفاء الأجناد ممّن قطع خبزه، فجعل لكلّ منهم في السّنة ثلاث آلاف درهم. وكان لبيبرس وسلار الجوكندار تعلّقات كثيرة في بيت المال، وفي الأعمال كالجيزة والإسكندرية، من متجر وحمايات، فارتجع ذلك وأبطله وما شابهه، وأضاف ما لم يقطعه إلى ديوان الخاصّ.

وممّا أمر به في مدّة العرض ألاّ يردّ أحد مثالا أخذه من السّلطان ولو استقلّه، ولا يشفّع أمير في جندي، وأن من خالف ذلك ضرب وحبس ونفي وقطع خبزه، فعظمت مهابة السّلطان وقويت حرمته، ولم يجسر أحد أن يرد عليه مثالا أخذ من السّلطان، ولا استطاع أمير أن يتكلّم لأحد.

وصار كثير ممّن كان إقطاعه مثلا ألف دينار إلى إقطاع مائتي دينار ونحوها، وكثير ممّن كان إقطاعه قليلا إلى إقطاع معتبر، فإنّه كان يعطي المثال/ من غير تأمّل كيفما وقعت يده عليه.

وقدّر اللّه أنّ السّلطان كان من جملة صبيان مطبخه رجل مضحك يهزل بحضرته، فيضحك منه ويعجب به ولا يعترض فيما يقول من السّخف. فجلس السّلطان في بعض أيّام العرض في البستان بقلعة الجبل وعنده الخاصّة من الأمراء، فدخل هذا المضحك وأخذ في السّخريّة على عادته ليضحك السّلطان، إلى أن قال: وجدت بعض أجناد الرّوك النّاصري وهو راكب الإكديش وخرجه خلفه ورمحه فوق كتفه، يقصد بهذا السّخرية والطّنز (a)؛ فغضب السّلطان غضبا شديدا، وصاح: خذوه وعرّوه ثيابه؛ فتبادره الأعوان، وجرّوه برجله ونزعوا


(a) بولاق: الطعن.
(١) انظر حول مدينة قطيا والمكس المحصل بها مقال عادل عبد الحافظ حمزة: «قطية جمرك مصر الشرقي في العصور الوسطى»، المجلة التاريخية المصرية ٣٧ (١٩٩٠)، ٤٥ - ٧٠.