ولم ير الناس من تلك المراكب، وما كان فيها من الحيال والعصيّ والناس، ولا من العمد والحجارة، وما شربه من ماء النهر حتى بانت أرضه أثرا. فعند ذلك قالت السّحرة: ما هذا من عمل الآدميين، وإنّما هو من فعل جبّار قدير على الأشياء! فقال لهم موسى: أوفوا بعهدكم، وإلاّ سلّطته عليكم يبتلعكم كما ابتلع غيركم. فآمنوا بموسى، وجاهروا فرعون، وقالوا: هذا من فعل إله السّماء، وليس هذا من فعل أهل الأرض. فقال: قد عرفت أنّكم قد واطأتموه عليّ وعلى ملكي حسدا منكم لي. وأمر فقطّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبوا (١)، وجاهرته امرأته، والمؤمن الذي كان يكتم إيمانه (٢).
وانصرف موسى، فأقام بمصر يدعو فرعون أحد عشر شهرا، من شهر آيار إلى شهر نيسان المستقبل، وفرعون لا يجيبه، بل اشتدّ جوره على بني إسرائيل واستعبادهم، واتّخاذهم سخريّا في مهنة الأعمال. فأصابت فرعون وقومه الجوائح العشر (٣)، واحدة بعد أخرى، وهو يتثبّت لهم عند وقوعها، ويفزع إلى موسى في الدّعاء بانجلائها، ثم يلحّ عند انكشافها، فإنّها كانت عذابا من اللّه ﷿ عدّب اللّه بها فرعون وقومه.
فمنها أنّ ماء مصر صار دما حتى هلك أكثر أهل مصر عطشا، وكثرت عليهم الضّفادع حتى وسّخت جميع مواضعهم، وقذّرت عليهم عيشهم وجميع مآكلهم، وكثر البعوض حتى حبس الهواء ومنع النسيم، وكثر عليهم ذباب الكلاب حتى جرّح أبدانهم ونغّص عليهم حياتهم، وماتت دوابّهم وأغنامهم فجأة، وعمّ الناس الجرب، والجدري حتى زاد منظرهم قبحا على مناظر الجذمى.
ونزل من السّماء برد مخلوط بصواعق أهلك كلّ ما أدركه من الناس والحيوانات، وذهب بجميع الثّمار، وكثر الجراد والجنادب التي أكلت الأشجار، واستقصت أصول النبات، وأظلمت الدّنيا ظلمة سوداء غليظة حتى كانت من غلظها تحسّ بالأجسام. وبعد ذلك كلّه نزل الموت فجأة على بكور أولادهم، بحيث لم يبق لأحد منهم ولد بكر إلاّ فجع به في تلك الليلة، ليكون لهم في ذلك شغل عن بني إسرائيل.
(١) وهو ما روته الآيات من ٤٢ إلى ٧٩ من سورة طه، ومن ١٠٦ إلى ١٢٦ من سورة الأعراف، وكذلك الآيات من ٧٥ إلى ٨٩ من سورة يونس، والآيات ٢٩ إلى ٥١ من سورة الشعراء. (٢) راجع الآيات ٢٨ - ٣٥ سورة غافر. (٣) انظر الآية ١٠١ سورة الإسراء، ونصّ الآية أنّها تسع آيات لا عشر؛ وانظر كذلك النويري: نهاية الأرب ١٩٧: ١٣ - ١٩٨.