وأربعين ألفا، يعملون من الأعمال ما يحيّر العقول، ويأخذ القلوب، من دخن ملوّنات ترى الوجوه مقلوبة مشوّهة، منها الطويل والعريض، والمقلوب جبهته إلى أسفل ولحيته إلى فوق، ومنها ما له قرون، ومنها ما له خرطوم وأنياب ظاهرة كأنياب الفيلة، ومنها ما هو عظيم في قدر التّرس الكبير، ومنها ما له آذان عظام، وشبه وجوه القرود بأجساد عظيمة تبلغ السّحاب، وأجنحة مركّبة على حيّات عظيمة تطير في الهواء ويرجع بعضها على بعض فيبتلعه، وحيّات يخرج من أفواهها نار تنتشر في الناس، وحيّات تطير وترجع في الهواء، وتنحدر على كلّ من حضر لتبتلعه، فيتهارب الناس منها، وعصيّ تحلّق في الهواء، فتصير حيّات برؤوس وشعور وأذناب تهمّ بالناس أن تنهشهم، ومنها ما له قوائم، ومنها تماثيل مهولة. وعملوا له دخنا تغشي أبصار الناس عن النظر فلا يرى بعضهم بعضا، ودخنا تظهر صورا كهيئة الثّيران في الجوّ على دوابّ يصدم بعضها بعضا، ويسمع لها ضجيج، وصورا خضرا على/ دوابّ خضر، وصورا سودا على دوابّ سود هائلة. فلمّا رأى فرعون ذلك، سرّه ما رأى هو ومن حضره، واغتمّ موسى ومن آمن به، حتّى أوحى اللّه إليه ﴿لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعْلى * * وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا﴾ [الآيتان ٦٨، ٦٩ سورة طه].
وكان للسّحرة ثلاثة رؤساء - ويقال بل كانوا سبعين رئيسا - فأسرّ إليهم موسى: قد رأيت ما صنعتم، فإن قهرتكم أتؤمنون باللّه؟ قالوا: نفعل. فغاظ فرعون مسارّة موسى لرؤساء السّحرة؛ هذا والناس يسخرون من موسى وأخيه، ويهزأون بهما وعليهما درّاعتان من صوف، وقد احتزما بليف.
فلوّح موسى بعصاه حتى غابت عن الأعين، وأقبلت في هيئة تنّين عظيم له عينان تتوقّدان، والنار تخرج من فيه ومنخريه، فلا يقع على أحد إلا برص، ووقع من ذلك على ابنة فرعون فبرصت. وصار التّنيّن فاغرا فاه، فالتقط جميع ما عملته السّحرة، ومائتي مركب كانت مملوءة حبالا وعصيّا وسائر من فيها من الملاّحين - وكانت في النهر الذي يتّصل بدار فرعون - وابتلع عمدا كثيرة وحجارة قد كانت حملت إلى هناك ليبنى بها.
ومرّ التّنّين إلى قصر فرعون ليبتلعه - وكان فرعون جالسا في قبّة على جانب القصر ليشرف على عمل السّحرة - فوضع نابه تحت القصر، ورفع نابه الآخر إلى أعلاه، ولهب النار يخرج من فيه حتى أحرق مواضع من القصر، فصاح فرعون مستغيثا بموسى ﵇ فزجر موسى التّنّين، فانعطف ليبتلع الناس، ففرّوا كلّهم من بين يديه، وانساب يريدهم، فأمسكه موسى، وعاد في يده عصا كما كان.