حكّموه ورضوا بحكمه، أقام نفسه ملكا عليهم. وأنكر قوم هذا، وقالوا: كان القوم أدهى من أن يقلّدوا ملكهم من هذه سبيله.
فلمّا جلس في الملك اختلف الناس عليه، فبذل لهم الأموال، وقتل من خالفه بمن أطاعه حتى اعتدل أمره، ورتّب المراتب، وشيّد الأعمال، وبنى المدن، وخندق الخنادق، وبنى بناحية العريش حصنا، وكذلك على جميع حدود مصر، واستخلف هامان - وكان يقرب منه في نسبه - وأثار الكنوز، وصرفها في بناء المدائن والعمارات، وحفر خليج سردوس وغيره، وبلغ الخراج بمصر في زمنه سبعة وتسعين ألف ألف دينار، بالدّينار الفرعوني، وهو ثلاثة مثاقيل (١).
وفرعون هو أوّل من عرّف العرفاء على الناس. وكان ممّن صحبه من بني إسرائيل رجل يقال له إمري - وهو الذي يقال له بالعبرانية عمرام وبالعربية عمران - بن قاهث بن لاوي، وكان قدم مصر مع يعقوب ﵇ فجعله حرسا لقصره يتولّى حفظه وعنده مفاتيحه وإغلاقه بالليل. وكان فرعون قد رأى في كهانته ونجومه أنّه يجري هلاكه على يد مولود من الإسرائيليين، فمنعهم من المناكحة ثلاث سنين التي رأى أنّ ذلك المولود يولد فيها. فأتت امرأة إمري إليه في بعض الليالي بشيء قد أصلحته له، فواقعها، فاشتملت منه على هارون، وولدته لثلاث وسبعين من عمره، في سنة سبع وعشرين ومائة لقدوم يعقوب إلى مصر، ثم أتته مرّة أخرى، فحملت بموسى لثمانين سنة من عمره (٢).
ورأى فرعون في نجومه أنّه قد حمل بذلك المولود، فأمر بذبح الذّكران من بني إسرائيل، وتقدّم إلى القوابل بذلك، فولد موسى ﵇ في سنة ثلاثين ومائة لقدوم يعقوب إلى مصر، وفي سنة أربع وعشرين وأربع مائة لولادة إبراهيم الخليل ﵇ ولمضيّ ألف وخمس مائة وستّ سنين من الطوفان.
وكان من أمره ما قصّه اللّه سبحانه من قذف أمّه له في التّابوت، فألقاه النيل إلى تحت قصر الملك، وقد أرصدت أمّه أخته على بعد لتنظر من يلتقطه فجاءت ابنة/ فرعون إلى البحر مع جواريها، فرأته واستخرجته من التابوت، فرحمته وقالت: هذا من العبرانيين من لنا بظئر (٣) ترضعه؟ فقالت لها أخته: أنا آتيك بها. وجاءت بأمّه، فاسترضعتها له ابنة فرعون إلى أن
(١) النويري: نهاية الأرب ١٣٦: ١٥. (٢) نفسه ١٣٧: ١٥، وكذلك ١٧٨: ١٣ - ١٧٩؛ التوراة، سفر الخروج ١٥/ ١ - ٢٢. (٣) الظّئر. المرضعة لغير ولدها. (الفيروزآبادي: القاموس المحيط ٥٥٥).