للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال ابن رضوان: والنّيل يمرّ بأمم كثيرة من السّودان، ثم يصير إلى أرض مصر وقد غسل ما في بلاد السّودان من العفونات والأوساخ، ويشقّ مارّا بوسط أرض مصر من الجنوب إلى الشّمال، إلى أن يصبّ في بحر الرّوم. ومبدأ زيادة هذا النهر (a) في فصل الصّيف، وتنتهي زيادته في فصل الخريف ويرتقي في الجو منه في أوقات مدّه رطوبات كثيرة بالتحلّل الخفيّ، فيرطّب ذلك يبس الصّيف والخريف.

وإذا مدّ النهر فاض على أرض مصر فغسل ما فيها من الأوساخ - نحو جيف الحيوانات وأزبالها، وفضول الآجام والنّبات ومياه النّقائع (b) - وأحدر جميع ذلك معه، وخالطه من تراب هذه الأرض وطينها مقدار كثير من أجل سخافتها، وباض فيه من السّمك الذي تربّى فيه وفي مياه النّقائع.

ومن قبل ذلك تراه في أوّل مدّه يخضرّ لونه بكثرة ما يخالطه من مياه النقائع العفنة التي قد اجتمع فيها العرمض والطّحلب، واخضرّ لونها من عفنها، ثم يتعكّر حتى يصير آخر أمره مثل الحمأة، وإذا صفا اجتمع منه في الإناء طين كثير ورطوبة لزجة لها سهوكة ورائحة منكرة، وهذا من أوكد الأشياء في ظهور رداءة هذا الماء وعفنه. وقد بيّن أبقراط وجالينوس أنّ أسرع المياه إلى العفن ما لطّفته الشّمس بمياه الأمطار.

ومن شأن هذا الماء أن يصل إلى أرض مصر وهو في الغاية من اللّطافة من شدّة حرارة بلاد السّودان، فإذا اختلط به عفونات أرض مصر زاد ذلك في استحالته، ولذلك يتولّد فيه من أنواع السّمك شيء كثير جدّا، فإنّ فضول الحيوانات والنّبات وعفونة هذا الماء وبيض السّمك يصير جميعها مواد في تكوّن هذه الأسماك كما قال أرسطاطاليس في كتاب «الحيوان».

وذلك شيء ظاهر للحسّ، فإنّ كلّ شيء يتعفّن يتولّد من عفونته الحيوان، ولهذا صار ما يتولّد من الدّود والفأر والثّعابين والعقارب والزّنابير والذّباب وغيرها بأرض مصر كثيرا. فقد استبان أنّ المزاج الغالب على أرض مصر الحرارة/ والرّطوبة الفضليّة، وأنّها ذات أجزاء كثيرة، وأنّ هواءها وماءها رديئان (١).


(a) بولاق: زيادته.
(b) الأصل وبولاق: النقاع والتصويب من ابن رضوان.
(١) ابن رضوان: دفع مضار الأبدان ١١٤ - ١١٦.