ونيل مصر مخالف في جريه لغالب الأنهار، فإنّه يجري من الجنوب إلى الشّمال، وغيره ليس كذلك، إلاّ نهران فإنّهما يجريان كما يجري النّيل، وهما نهر مهران بالسّند، ونهر الأريط - وهو الذي يعرف اليوم بنهر العاصي - في حماة؛ إحدى مدائن الشّام.
وقد عاب ماء النّيل قوم، قال أبو بكر بن وحشيّة (١) في كتاب «الفلاحة النّبطيّة»: وأمّا ماء النّيل، فمخرجه من جبال وراء بلاد السّودان يقال لها جبال القمر؛ وحلاوته وزيادته يدلاّن على موقعه من الشّمس أنّها أحرقته لا كلّ الإحراق، بل أسخنته إسخانا طويلا ليّنا، لا تزعجه الحرارة ولا تقوى عليه، بحيث تبرّد أجزاءه الرّطبة وتبقى أجزاءه الرّاسخة، بل يعتدل عليه؛ فصار ماؤه لذلك حلوا جدّا، وصار كثرة شربه يعفن البدن ويحدث البثور والدّماميل والقروح، وصار أهل مصر الشّاربون منه دمويّين محتاجين إلى استفراغ الدّمّ عن أبدانهم في كلّ مدّة قصيرة. فمن كان عالما منهم بالطّبيعة، فهو يحسن مداواة نفسه حتى يدفع عن جسمه ضرر ماء النّيل، وإلاّ فهو يقع فيما ذكرنا من العفونات وانتشار البثر والدّماميل [على البدن] (a). وذلك أن هذا الماء ناقص البرد عن سائر المياه، قد صيّر له الطّبخ قواما هو أثخن من قوام الماء، فصار إذا خالط الطّعام في الأبدان كثّر فيها الفضول الرّديّة العفنة، فيحدث من ذلك ما ذكرناه.
ودواء أهل مصر الذي يدفع عنهم ضرر ماء النّيل إدمان شرب ربوب الفاكهة الحامضة القابضة، وأخذ الأدوية المستفرغة للفضول. ولو زادت حرارة الشّمس على ماء النّيل وطال طبخها له لصار مالحا بمنزلة ماء البحار الراكدة التي لا حركة لها إلاّ وقت جزر البحر وهبوب الرّياح. وهو أوفق للزّروع والمنابت من الحيوان (٢).
(a) زيادة من ابن وحشية. بالوفيات ٣١: ٢٧. (١) أبو بكر أحمد بن علي بن قيس الكسداني المعروف بابن وحشيّة، ومعلوماتنا عنه قليلة جدّا، أملى أغلب مؤلفاته على كاتبه أبي طالب أحمد بن الحسين بن عليّ بن أحمد بن محمد بن عبد الملك الزّيات أحد أحفاد الوزير العباسي المعروف المتوفى نحو سنة ٣٤٠ هـ/ ٩٥١ م. وأهم مؤلّفات ابن وحشية كتابه «الفلاحة النّبطية» الذي ينقل عنه المقريزي هنا وفي مواضع أخرى قادمة Fahd، T.، El ٢? art.Ibn). (Wahshiyya III، pp. ٩٨٨ - ٩٠ (٢) ابن وحشية: الفلاحة النبطية ١٠٤ - ١٠٥.