للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فأوّله أنّ ماء النّيل عين تمرّ على أراضي حرّة، ولا يغلب على تربة ما يمرّ به شيء من الأحوال والكيفيات الرديّة، كمعادن النّفط والشّبّ والأملاح والكباريت ونحوها، بل يمرّ على الأراضي التي تنبت الذّهب، بدليل ما يظهر في الشّطوط من قراضات الذّهب. وقد عانى جماعة تصويل الذّهب من الرّمل المأخوذ من شطوط النّيل، فربحوا منه مالا. وفضيلة كون الذّهب في الماء لا تنكر. الثّاني: أنّ النّيل في جريانه أبدا مكشوف للشّمس والرّياح. الثّالث: أنّ طينه من طين مسيل من مياه مجتمعة من أمطار تمرّ على أراض حرّة، ويظهر ذلك من عطريّة روائح الطّين إذا ندّيته بماء. الرّابع:

غمورة ماء النّيل وشدّة جريته التي تكاد تقصف العمد إذا اعترضتها، وتدفع الأثقال العظيمة إذا عارضتها. الخامس: بعد مبدأ خروجه من مصبّه في البحر المالح، وقد تقدّم/ من طول مسافته ما لا نجده في نهر غيره من أنهار المعمور. السّادس: انحداره من علوّ، فإنّ الجنوب مرتفع عن الشّمال، لا سيّما إذا صار إلى الجنادل انحطّ من أعلى جبل مرتفع إلى وادي مصر.

وذكر ابن قتيبة في كتاب «غريب الحديث» من حديث جرير بن عبد اللّه البجلي، حين سأله رسول اللّه عن منزله ببيشة (a) (١)، فذكره إلى أن قال: وماؤنا يميع (b)، أي يجري من علوّ (c)، فقال النّبيّ : «خير الماء السّنم» أي ما كان ظاهرا على وجه الأرض. والسّنم الماء على وجه الأرض، وكلّ شيء علا شيئا فقد تسنّمه، مأخوذ من سنام البعير لعلوّه. وقال بعض المفسّرين في قوله تعالى: ﴿وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ﴾ [الآية ٢٧ سورة المطففين]: أي يمزج بما ينزل من علوّ (d) (٢).

السّابع: أنّه يمرّ من الجنوب إلى الشّمال، فتستقبله ريح الشّمال الطّيّبة دائما. الثّامن: خفّته في الوزن، وقد اعتبر ذلك غير مرّة مع غيره من المياه فخفّ عنها في الوزن.

التّاسع: عذوبة طعمه، وحسن أثره في هضم الغذاء، وإحداره عن المعدة، بحيث إنّه يحدث بعد شربه جشاء.

وهذه صفات، إن كنت ممّن مارس العلم الطّبيعي وعرف الطّبّ، فإنّه يعظم عندك قدر ماء النّيل، وتبيّن لك غزارة نفعه وكثرة محاسنه.


(a) هذه الفقرة وردت في بولاق في غير موضعها بسبب عدم دقة نقل الطيارات التي أضافها المقريزي في مواضعها الصحيحة.
(b) بولاق: ببلنسية.
(c) بولاق: يمتنع.
(d) في غريب الحديث: أي يسيل من علو.
(١) بيشة قرية باليمن بينها وبين تبالة أربع وعشرون ميلا وهي في وادي يصب سيله من حجاز الطائف (ياقوت: معجم البلدان ٥٢٩: ١).
(٢) ابن قتيبة: غريب الحديث ٥٤٢: ١، ٥٤٣.