ماء النّيل لا تكون إلاّ عن غزارة الأمطار ببلاد الجنوب، وأمطار الجنوب لا تكون إلاّ في الصّيف (a)، ولم يعهد قطّ زيادة النّيل في الشّتاء.
وأوّل دليل على أنّ كون زيادته عن سيل يسيل فيه إنّما يزيد بتدريج على قدر ما يهبط فيه من السّيول.
وأمّا استدلاله بضيق مصبّ (b) النّيل في أسوان واتّساعه أسفل الأرض، فإنّما ذلك لأنّه يصبّ من علوّ في منخرق بين جبلين، يقال لهما الجنادل، وينبطح في الأرض حتى يصبّ في البحر، فاتّساعه حيث لا يجد حاجزا يحجزه عن الانبساط.
وأمّا قوله:«إنّ الأسداد إذا كثرت فاض الماء على الأرض دفعة» فليس كذلك، بل يصير الماء عند كسر كلّ سدّ من الأسداد في خليج، ثم تفتح ترع من الخليج إلى الخليج إلى ما على جانبيه من الأراضي حتى يروى. فمن تلك الأراضي ما يروى سريعا، ومنها ما يروى بعد أيّام، ومنها ما لا يروى لعلوّه.
وأمّا قوله: «إنّ جميع تلك المشارب تسدّ (c) عند ابتداء صعود النّيل، ليجتمع ما يسيل من الماء في النّيل ويكثر، فيعمّ جميع أرضهم، ويمنع بجملته دخول الماء الملح عليه» فغير مسلّم أن تكون السّدود (d) كما ذكر، بل أراضي مصر أقسام كثيرة: منها عال لا يصل إليه الماء إلاّ من زيادة كثيرة، ومنها منخفض يروى من يسير الزّيادة (١). والأراضي متفاوته في الارتفاع والانخفاض تفاوتا كثيرا، ولذلك احتيج في بلاد الصّعيد إلى حفر التّرع، وفي أسفل الأرض إلى عمل الجسور حتى يحبس الماء ليتصرّف فيه (e) أهل النّواحي على قدر حاجتهم إليه عند الاحتياج، وإلاّ فهو يزيد أوّلا في غير وقت (f) سقى الأراضي، حتى إذا اجتمع من زيادته المقدار الذي هو كفاية الأراضي في وقت خلوّ الأراضي من الغلال وذلك غالبا في أثناء شهر مسرى، فتح حينئذ (g) الخليج حتى يجري فيه الماء إلى حدّ معلوم، ووقف حتى يروي ما تحت ذلك الحدّ الذي وقف عنده الماء من الأرض، ثم فتح ذلك الحدّ في يوم النّوروز (h) حتى يجري الماء (f) إلى حدّ آخر، ويقف عنده حتى يروي ما
(a) بولاق: أيام الصيف. (b) بولاق: استدلاله بصب. (c) بولاق: تستد. (d) بولاق: السداد. (e) بولاق: ليروي. (f) ساقطة من بولاق. (g) بولاق: سد. (h) بولاق: النيروز. (١) انظر فيما يلي ٢٧٠ - ٢٧٣.