للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال: والسّبب في عظم المدّ والجزر كثرة الأشعّة، فإذا زاحمت الشّمس والقمر الكواكب السّيّارة، عظم فيض البحر، وإذا عظم فيض البحر فاضت الأنهار، وكذلك إذا نهض القمر لمقابلة أحد السّيّارة ارتفع البخار، وصعد إلى كرة (a) الزّمهرير، ونزل المطر. فإذا فارق القمر الكوكب ارتفع المطر لكثرة التحليل، كما يكون في نصف النّهار عند توسّط الشّمس لرؤوس الخلق، وكما يكون عند حلول الكواكب الكثيرة (b) على وسط خطّ أرين، واللّه تعالى أعلم بالصّواب.

قال كاتبه (c): الذي يحصل من هذا القول أنّ النّيل مخرجه من جبل القمر، وأنّ زيادته إنّما هي من فيض البحر عند المدّ. فأمّا كون مخرجه من جبل القمر فمسلّم إذ لا نزاع في ذلك، وأمّا أنّ (d) زيادته لا تكون إلاّ من ردع البحر له بما حصل فيه من المدّ، فليس كذلك. نعم توالي هبوب الرّياح الشّمالية معينة (e) على وفور الزّيادة وردع البحر له إعانة على الزّيادة.

ومن تأمّل النّيل علم أنّ سيلا سال فيه ولا بد، فإنّه لا يزال أيّام الشّتاء وأوائل فصل الرّبيع ماؤه صافيا من الكدرة، فإذا فرغت أيّام زيادته وكان في غاية نقصه تغيّر طعمه، ومال لونه إلى الخضرة، وصار بحيث إذا وضع في إناء يرسب منه شبه أجزاء صغيرة من طحلب. وسبب ذلك أن البطيحة التي في أعالي الجنوب تردها الفيلة ونحوها من الوحوش حتّى يتغيّر ماؤها، فإذا كثرت أمطار الجنوب في فصل الصّيف، وعظمت السّيول الهابطة في هذه البطيحة، فاض منها ما تغيّر من الماء، وجرى إلى أرض مصر، فيقال عند ذلك توحّم النّيل (١).

ولا يزال الماء كذلك حتى يعقبه ماء متغيّر، ويزاد عكره بزيادة الماء، فإذا وضع منه أيّام الزيادة شيء في إناء رسب بأسفله طين لم يعهد فيه قبل أيّام الزيادة، وهذا الطّين هو الذي تحمله السّيول التي تنصبّ في النّيل حتى تكون زيادته منها، وفيه يكون الزّرع بعد هبوط النّيل، وإلاّ فأرض مصر سبخة لا تنبت ولا ينبت منها إلاّ ما مرّ عليه ماء النّيل، وركد منه هذا الطّين.

وقوله (٢): «إنّ السّيل يكون في غير وقت فيض البحر، ولا يفيض النّيل لكون البحر في الجزر، فيصل السّيل ويمرّ نحو البحر فلا يردعه رادع» غير مسلّم، وإن العادة أنّ السّيول التي عليها زيادة


(a) بولاق: كورة.
(b) بولاق: الكبيرة.
(c) بهامش نسخة الأصل: في الأصل كاتبه واستعاض عنها في النص بكلمة مؤلفه.
(d) بولاق: كون.
(e) ساقطة من بولاق.
(١) انظر فيما يلي ١٦٢.
(٢) واضح أن المقريزي يستمر في النقل عن صاحب كتاب «المسالك والممالك» الذي لم يعيّنه.