للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

النّوم، وأنت إلى الحيّ أقرب وبضمانه أوثق. فقال: دعنا من هذا، فلست أقبل منك! وركب في غد ذلك اليوم إلى نحو الصّعيد. فلما أمعن في الصّحراء ساخت في الأرض يد فرس بعض غلمانه - وهو رمل - فسقط الغلام في الرّمل، فإذا بفتق، ففتح فأصيب فيه من المال ما كان مقداره ألف ألف دينار، وهو المطلب (a) الذي شاع خبره. وكتب به إلى العراق أحمد بن طولون يخبر المعتمد به، ويستأذنه فيما يصرفه فيه من وجوه البرّ وغيرها، فبنى منه المارستان. ثم أصاب بعده في الجبل مالا عظيما، فبنى منه الجامع، ووقف جميع ما بقي من المال في الصّدقات.

وكانت صدقاته ومعروفه لا تحصى كثرة.

ولمّا انصرف من الصّحراء، وحمل المال، أحضر ابن دشّومة وأراه المال، وقال له: بئس الصّاحب والمستشار أنت! هذا أوّل بركة مشورة الميّت في النّوم، ولولا أنّني أمّنتك لضربت عنقك. وتغيّر عليه وسقط محلّه عنده. ورفع إليه بعد ذلك أنّه قد أجحف بالنّاس، وألزمهم أشياء ضجّوا منها. فقبض عليه وأخذ ماله وحبسه، فمات في حبسه (١).

وكان ابن دشّومة واسع الحيلة بخيل الكفّ، زاهدا في شكر الشّاكرين، لا يهشّ إلى شيء من أعمال البرّ. وكان أحمد بن طولون من أهل القرآن، إذا جرت منه إساءة استغفر وتضرّع (٢).

وقال ابن عبد الظّاهر: سمعت غير واحد يقول: إنّه لمّا فرغ أحمد بن طولون من بناء هذا الجامع، أسرّ للنّاس بسماع ما يقوله النّاس فيه من العيوب. فقال رجل: محرابه صغير، وقال آخر: ما فيه عمود، وقال آخر: ليست له ميضأة. فجمع النّاس وقال: أمّا المحراب فإنّي رأيت رسول اللّه وقد خطّه لي، فأصبحت فرأيت النّمل قد أطافت بالمكان الذي خطّه لي (٣). وأمّا العمد فإنّي بنيت هذا الجامع من مال حلال وهو الكنز، وما كنت لأشوبه بغيره، وهذه العمد إمّا أن تكون من مسجد أو كنيسة فنزّهته عنها. وأمّا الميضأة فإنّي نظرت


(a) بولاق: الكنز.
(١) البلوي: سيرة أحمد بن طولون ٧٣ - ٧٧؛ ابن سعيد: المغرب ٨٥ - ٨٦ (عن ابن الدّاية)؛ ابن أيبك: كنز الدرر ٢٧١: ٥؛ ابن عبد الظاهر: الروضة البهية ٧٨؛ السيوطي: حسن المحاضرة ٢٤٧: ٢؛ ابن إياس: بدائع الزهور ١٦٢: ١/ ١ - ١٦٣.
(٢) المقريزي: مسوّدة الخطط ٧٣ ظ - ٧٥ و.
(٣) فيما تقدم ٣٨؛ وقارن الموفق بن عثمان: مرشد الزوار ٢٠٣ - ٢٠٤.