وأهل مصر يشرب الجمهور منهم من ماء النّيل، وقد قلنا في ماء النّيل ما فيه كفاية، وبعضهم يشرب مياه الآبار، وهي قريبة من مشاكلتهم، والمياه المخزونة فقلّ من يشربها بأرض مصر. وأجود الأشربة عندهم الشّمسي، لأنّ العسل الذي فيه يحفظ قوّته ولا يدعه يتغيّر بسرعة، والزّمان الذي يعمل فيه خالص الحرّ فهو ينضجه، والزّبيب الذي يعمل منه مجلوب من بلاد أجود هواء.
وأمّا الخمر فقلّ من يعتصرها إلاّ ويلقى معها عسلا، وهي معتصرة من كرومهم فتكون مشاكلة لهم، ولهذا صاروا يختارون الشّمسي عليها، وما عدا الشّمسي والخمر من الشّراب بأرض مصر، فرديء لا خير فيه لسرعة استحالته من فساد مادّته كالنّبيذ التمري والمطبوخ والمزر المعمول من الحنطة.
وأغذية أهل مصر مختلفة: فإنّ أهل الصّعيد يغتذون كثيرا بتمر النّخل والحلاوة المعمولة من قصب السكر، ويحملونها إلى الفسطاط وغيرها، فتباع هناك وتؤكل. وأهل أسفل الأرض يغتذون كثيرا بالقلقاس والجلّبان، ويحملون ذلك إلى مدينة الفسطاط وغيرها، فتباع هناك وتؤكل، وكثير من أهل مصر يكثرون أكل/ السّمك طريّا ومالحا. وكثير يكثرون أكل الألبان وما يعمل منها، وعند فلاحيهم نوع من الخبز يدعى كعكا، يعمل من جريش الحنطة ويجفّف، وهو أكثر أكلهم السّنة كلّها.
وبالجملة فكلّ قوم منهم قد نبتت (a) أبدانهم من أشياء بأعيانها وألفتها ونشأت عليها، إلاّ أنّ الغالب على أهل مصر الأغذية الرّديئة، وليست تغيّر مزاجهم ما دامت جارية على العادة، وهذا أيضا ممّا يؤكّد أمرهم في السّخافة وسرعة الوقوع في الأمراض.
وأهل الرّيف أكثر حركة ورياضة من أهل المدن، ولذلك هم أصحّ أبدانا؛ لأنّ الرّياضة تصلّب أعضاءهم وتقوّيها.
وأهل الصّعيد أخلاطهم أرقّ وأكثر دخانية وتخلخلا وسخافة، لشدّة حرارة أرضهم من أهل (b) أسفل الأرض. وأهل أسفل الأرض بمصر أكثر استفراغ فضولهم بالبراز والبول، لفتور حرارة أرضهم، واستعمالهم للأشياء الباردة والغليظة كالقلقاس.
وأمّا أخلاق (c) المصريين فبعضها شبيه ببعض، لأنّ قوى النّفس تابعة لمزاج البدن، وأبدانهم سخيفة سريعة التّغيّر قليلة الصّبر والجلد، وكذلك أخلاقهم يغلب عليها الاستحالة، والتّنقّل من
(a) بولاق: ابتنت. ابن رضوان: أنبتت. (b) ساقطة من بولاق. (c) بولاق: أخلاط.