ولا تظن (a) أنّ أبدان الناس وغيرهم تخالف ما عليه الحنطة من سرعة الاستحالة؛ وكيف لا يكون الأمر كذلك وأبدانهم مبنيّة من هذه الأشياء. فحال ما يتولّد بأرض مصر من النّبات والحيوان، في السّخافة وكثرة الفضول والعفن وسرعة الوقوع في الأمراض، كحال سخافة أرضها وعفنها وفضولها وسرعة استحالتها، لأنّ النّسبة واحدة، ولذلك أمكن حياة الحيوان فيها ونبات النّبات بها، فإنّ هذه الأشياء من حيث ناسبتها ولم تبعد عن مشاكلتها أمكن حياتها. فأمّا الأشياء الغريبة فإنّها إذا دخلت إلى مصر تغيّرت في أوّل لقائها لهذا الهواء، حتى إذا استقرّت وألفت الهواء واستمرّت عليه، صحّت صحّته (b) مشاكلة لأرض مصر (١).
قال: وأمّا جنس ما يؤكل ويشرب بأرض مصر، فإنّ الغلاّت سريعة التّغيّر، سخيفة متخلخلة، تفسد في الزّمان اليسير، كالحنطة والشّعير والعدس والحمّص والباقلاّء والجلّبان، فإنّ هذه تسوّس في المدّة القليلة، ليس لشيء من الأغذية التي تعمل منها لذاذة ما لنظيره في البلدان الأخر، وذلك أنّ الخبز المعمول من الحنطة بمصر متى لبث يوما واحدا بليلته لا يؤكل، وإن أكل لم يوجد له لذاذة ولا تماسك لبعضه ببعض، ولا يوجد فيه علوكة، ولكنه يتكرّج في الزمان اليسير، وكذلك الدّقيق، وهذا خلاف أخبار البلدان الأخر.
وكذلك الحال في جميع غلاّت مصر وفواكهها وما يعمل منها (c)، فإنّها وشيكة الزّوال، سريعة الاستحالة والتّغيّر. فأمّا ما يحمل من هذه إلى مصر، فظاهر أنّ مزاجها يتبدّل باختلاف الهواء عليها، ويستحيل عمّا كانت عليه إلى مشاكلة أرض مصر، إلاّ أنّ ما كان حديثا قريب العهد بالسّفر، فقد بقيت فيه من جودته بقايا صالحة؛ فهذا حال الغلاّت.
وأمّا الحيوان الذي يأكله الناس، فالبلديّ منه مزاجه مشاكل لمزاج النّاس بهذه الأراضي في السّخافة وسرعة الاستحالة، فهو على هذا ملائم لطبائعهم، والمجلوب كالكباش البرقيّة فالسّفر يحدث في أبدانها قحلا ويبسا وأخلاطا لا تشاكل مزاج (d) المصريين، ولهذا إذا دخلت مصر مرض أكثرها، فإذا استقرّت زمانا صالحا تبدّل مزاجها ووافق مزاج المصريين.
(a) بولاق: ولا مطعن. (b) ساقطة من بولاق. (c) بولاق: فيها. (d) بولاق: أخلاط. (١) ابن رضوان: دفع مضار الأبدان ١١٩ - ١٢٢.