وأخرى ساكن، ومرّة الشّمس صاحية، ومرّة قد سترها الغيم. وبالجملة هواء مصر كثير الاختلاف، غير لازم لطريقة واحدة، فيصير من أجل ذلك ما في الأوعية والعروق من أخلاط البدن، لا يلزم حدّا واحدا.
وأيضا فإنّ ما يتحلّل كلّ يوم من البخار الرّطب بأرض مصر، يعوّقه اختلاف الهواء وقلّة سمك الجبال وكثرة حرارة الأرض عن الاجتماع في الجوّ، فإذا برد الهواء ببرد الليل انحدر هذا البخار على وجه الأرض، فيتولّد عنه الضّباب الذي يحدث عنه الطّلّ والنّدى، وربما تحلّل هذا البخار بالتحلّل الخفيّ، فإذا يتحلّل كلّ يوم ما كان اجتمع من البخار في اليوم الذي قبله، فمن أجل هذا لا يجتمع الغيم المطر بأرض مصر/ إلاّ في النّدرة، وظاهر أيضا أن أرض مصر يترطّب هواؤها في كلّ يوم بما يترقّى إليه من البخار الرّطب وما يتحلّل.
وقد قال بعض النّاس: إنّ الضّباب يتكوّن من استحالة الهواء إلى طبيعة الماء، فإذا انضاف هذا إلى ما قلناه، كان أزيد في بيان سرعة تغيّر الهواء بأرض مصر وكثرة العفونة فيها، وقد استبان أنّ أرض مصر كثيرة الاختلاف، كثيرة الرّطوبة الفضيلة التي يسرع إليها العفن.
والعلّة القصوى في جميع ذلك، هو أنّ أخصّ الأوقات بالجفاف في الأرض كلّها تكثر فيه بمصر الرّطوبة، لأنّها تترطّب في الصّيف والخريف بمدّ النيل وفيضه، وهذا خلاف ما عليه البلدان الأخر.
وقد أعلمنا (a) أبقراط أنّ رطوبة الصّيف والخريف فضليّة أعني خارجة عن المجري الطّبيعي كرطوبة المطر الحادث في الصّيف. ومن أجل هذا قلنا إنّ رطوبة [أرض] (b) مصر فضليّة، وذلك أنّ الحرارة واليبس هو بالحقيقة مزاج مصر الطّبيعي، وإنّما عرض له ما أخرجه عن اليبس إلى الرّطوبة الفضليّة مدّ النّيل في الصّيف والخريف، ولذلك كثرت العفونات بهذه الأرض.
فهذا هو السّبب الأوّل (c) الأعظم في أن صارت أرض مصر على ما هي عليه من سخافة الأرض وكثرة العفن ورداءة الماء والهواء؛ إلاّ أنّ هذه الأشياء لا تحدث في أبدان المصريين استحالة محسوسة إذا جرت على عادتها، من أجل إلف المصريين لهذه الحال ومشاكله أبدانهم لها، فإنّ كلّ ما يتولّد بأرض مصر من الحيوان والنّبات مشابه لما عليه مصر في سخافة الأبدان (d) وضعف القوى وكثرة التغيّر وسرعة الوقوع في الأمراض وقصر المدّة، كالحنطة بمصر فإنّها وشيكة الزّوال، سريع إليها العفن في المدّة اليسيرة.
(a) بولاق: علمنا. (b) إضافة من ابن رضوان. (c) ساقطة من بولاق. (d) الأصل: الأجسام.